التطبيع.. صك تبعية واستسلام

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

يفهم عرب اليوم التطبيع مع الكيان الصهيوني على أكثر من وجه وأكثر من مقصد وتفسير، فمنهم من يرى في التطبيع "وجاهة سياسية ومجدا تاريخيا"، ومنهم من يراه "واقعية سياسية"، ومنهم من يرى فيه استقرارا وتجنيب بلاده المواجهة غير المتكافئة مع الغرب، ومنهم من يرى فيه الاستسلام ثم الزوال التدريجي (وهم قلة).

جميع تلك الفئات من عرب اليوم معروفة ولا تحتاج إلى تفنيد وتعريف كونها مواقف مُعبر عنها تلميحًا أو تصريحًا ولم تعد خافية على أحد . بلا شك لا يمكننا الحديث عن ظاهرة وثقافة التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل دون العودة إلى قليل من التاريخ العربي المُعاصر وتحديدًا القريب منه والمتمثل في وعد بلفور، أو إعلان بلفُور بيانٌ علنيّ أصدرته الحكومة البريطانيّة خلال الحرب العالمية الأولى لإعلان دعم تأسيس «وطن قوميّ للشعب اليهوديّ» في فلسطين، التي كانت منطقة عثمانية ذات أقليّة يهوديّة. ونصها:

تاريخ النشر الأصلي: 2 نوفمبر 1917م، المؤلف: آرثر جيمس بلفور

الغرض : تأكيد دعم الحكومة البريطانية لتأسيس "وطن قوميّ" للشعب اليهوديّ في فلسطين، محررو الوثيقة: والتر روتشيلد وآرثر بلفور وليو آميري واللورد ألفريد ميلنر) . واتفاقية سايكس/بيكو: (اتفاقية سايكس بيكو عام 1916م  هي معاهدة سرية بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وإيطاليا على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، ولتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا وتقسيم الدولة العثمانية التي كانت المسيطرة على تلك المنطقة في الحرب العالمية الأولى. التصديق: 16مايو 1916م، الغرض: تحديد مجالات النفوذ والسيطرة في الشرق الأوسط في حالة تمكن الوفاق الثلاثي من هزيمة الدولة العثمانية، تاريخ التقديم: 23 نوفمبر 1917م من قبل حكومة روسيا البلشفية). (ويكيبيديا).

وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو قسما الوطن العربي- وكما هو معلوم- إلى كيانات صغيرة سُميت أقطارا، وهذه الأقطار بتفاوت قدراتها ومقدراتها أصبحت كيانات وظيفية تخدم مصالح الغرب وتقضم أطرافها بوعي وبلا وعي منها ولا إدراك، بما سيترتب على ذلك لاحقًا، والانقسام العربي اليوم حول التطبيع وعليه هو جزء أصيل من ثقافة وأهداف الوعد واتفاقية سايكس بيكو. لم يُدرك الكثير من عرب اليوم أن الكيان الصهيوني أبعد من احتلال أرض وأبعد من كيان؛ فالكيان الصهيوني مشروع غربي مُعطل لنهضة الأمة العربية ومُعطل لسيادتها ومُعطل لإرادتها، فهو في البداية والنهاية ذراع غربي لإدارة الصراع الوجودي بين الأمة العربية والغرب وبديل مُستحدث عن أدوات الصراع التقليدية والمتمثلة في الاحتلالات والحروب المباشرة.

أسوأ مراحل التاريخ التي عاشها الكيان المحتل بعد الحروب العسكرية المباشرة معه كانت مرحلة اللا حرب واللا سلم بعد اتفاق وقف إطلاق النار مع سورية عام 1974م، فهذه السياسة التي أختطها الزعيم الراحل حافظ الأسد جعلت الكيان في وضع حالة من الطوارئ والاستنفار الدائمين، لهذا سعى إلى توسيط الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام 1998م لتحريك ملف "السلام" مع سورية وكسر هذه الحالة المُريبة والمُقلقة له.

يمكن الجزم بأن الكيان الصهيوني اليوم في أسوأ حالاته التاريخية، فهو لم يعد الجيش الذي لا يُقهر بعد مواجهات جنوب لبنان عامي 2000 و2006 ومواجهات غزة وانتفاضات الشعب الفلسطيني الدائمة، وزاد على ذلك الوضع الإقليمي والمتمثل في تعاظم قوة وخيارات تيار الممانعة، الدولي والمتمثل في الملف الأوكراني وتداعياته على الكيان وداعميه الرئيسيين.

أمريكا اليوم في حالة أفول تدريجي، وأوروبا في حالة فوضى ومرحلة البحث عن الذات، ومنسوب التأثير الغربي على العالم وخاصة جنوبه في تراجع تدريجي خطير، بدليل زحف اليسار على أمريكا اللاتينية والزحف الوطني الأفريقي على بقايا النفوذ الفرنسي وقرارات "أوبك بلس" الأخيرة بخفض صادرات النفط بنسبة مليوني برميل يوميًا والذي وإن كان تكتيكيًا- ضد الديمقراطيين- فإنه يصب في خانة "العقوق" السياسي للسيد الأمريكي خاصة في توقيته وتزامنه.

جميع هذه المظاهر على المشهد السياسي الإقليمي والدولي ليست تكتيكية بلا شك؛ بل تشكّل لمستقبل لن ينتظر المترددين، ولن يشفع لهم، لهذا فخيار "عدم التطبيع" مع الكيان الصهيوني اليوم خيارٌ ينبع من قناعات ومُعطيات قوية على الأرض وهي فرصة تاريخية للعرب ليقولوا (لا) للمرة الأولى والأخيرة للغرب وبصوت جماعي ويختاروا الانتصار لبقائهم ولمصالحهم.

قبل اللقاء: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ** فمن فساد الرأي أن تترددا

وبالشكر تدوم النعم.