ماجد المرهون
لم تكن المحاذير سابقًا كثيرةً مثل ماهي عليه اليوم، كما لم يُنبهنا أهلنا جزاهم الله خيرًا من بعض الأخطار الجوهرية التي قد تُهدد مستقبل الفرد، باستثناء ما كان يشغل جُل اهتمامهم والتي قد تكون معدودةٌ على أصابع اليد الواحدةِ كالتربية الاجتماعية ومتعلقاتها من عادات وتقاليد وتعاملات تعود نتائجُها عليهم بالمقام الأول خصوصًا فيما يتعلق بالسمعة ثم الدراسة النظامية، ولا عتب عليهم ولا عليهم من ملام لأنَّ الكم الكبير من مخاطر اليوم لم تعرف سابقًا في مجتمعنا.
ولذلك وقع الكثير من جيل الستينات والسبعينات في بعض الأمور التي لم تندرج ضمن القائمة القصيرة للمحاذير التقليدية ولعل أهمها الديون، وهو أمر غير مستغربٍ حيث لا وجود لمؤسسات الإقراض والتمويل آنذاك وحتى بعد ظهورها في سبعينيات القرن الماضي واستمرارها لما لا يقل عن جيل من الزمان، فلم تكن مسلمات التوفير والاقتراض قد بلغت مرحلةً كافيةً من النُضج في المجتمع لتشكل وعيًا عامًا وتدخل ضمن ثقافة التحفيز والتثبيط.
كان التنافس بين مؤسسات الإقراض الناشئة محدودًا وبسيطًا من حيث عددِها ونسب فوائدها وفترات التسديد وحجم محافظ الإقراض لديها، واستمرت تلك المحدوديةُ لفترةٍ قصيرةٍ ثم انطلق توسُعها مواكبًا لتوسع سوق العمل ومُخرجاته، حتى وجد مُعظم الموظفين في القطاعين أنفسهم بين فكي القروض الاستهلاكية باختلاف مسمياتها الترويجية، وبات من شبه المستحيل النجاةُ من قبضتها وعضَّة أنيابها إلا بعصا موسى أو صبر أيوب، أو بيع شيء من الممتلكات المعتَّد بتوارثها أبًا عن جد قبل أن تُعرض للمزايدات.
لقد جرت العادة أن يكون بلوغ الستين عامًا هو العرف السائد لتقاعد الموظف من عمله ويهنأ بشيءٍ من السكينة والهدوء، واتفقت عليه كذلك مؤسسات الإقراض بأنواعها ولكن كُسرت تلك العادة وهُمِّش ذلك العرف مع الانفجار السكاني في عدد الباحثين عن عمل والوضع الاقتصادي المعروف الذي استدعى تدخلًا علاجيًا عاجلًا باستخدام مِشرط التقاعد المبكر والإلزامي عند إكمال 30 عامًا في الخدمة مع إلقاء طوق النجاة لقلةٍ وقعت تحت رحمة الاستثناء، مازاد من إطباق فكي القروض على تلك الفئة من الناس؛ حيث كان أمرًا خارجًا عن كل توقعاتِهم وحساباتِهم وجاء على هيئة لكمةٍ قاضيةٍ أودت بهم إلى شفير الإفلاس وأدخلتهم في صدمةٍ عميقة ومؤقتة، حتى إذا ما استفاقوا منها وجدوا الأقساط والفواتير ومقتضيات المعيشةِ قد قامت بزيارتهم عدة مرات خلال مرحلة الإنعاش السريعة وتتوعدهم بمزيدٍ من الزيارات مع تكثيفٍ للمطالبات المشفوعة قانونيًا وتشديدٍ أكبرٍ للخناق مع التلويح بطرق أبواب المحاكم التي لا يسرها ذلك ولكن وجب عليها إنفاذ القانون.
هل هناك شعورٌ بالأسى أشد وطأةً على من بلغ الخمسين من العمر وزيادةٍ وهو يُفكر بكيفية توفير كيسٍ من الخبز لأبنائه صباح الغد، وطريقةِ تدبير المصروف المدرسي اليومي لأطفالهِ، وما الأذكار التي سيتّحصن بها لتجنب شبح قطع الماء والكهرباء عن بيته المرهون، وماهو الأسلوب المتجدد الذي سينتهجه مع اتصالات شركات التمويل المتكررةِ والمطالِبة له بدفع شيكاته المرتجعة مع علمهم بظرفهِ بعد كل المكالمات السابقة؟!
يركب المتقاعد سيارته غير المُجددة في حالةٍ من شرود الذهن، ويلاحظ بعض الشباب المُفعم بالنشاط إيماءاتهِ وهو يحدثُ نفسهُ في الشارع أثناء توقفهم عند إشارات المرور فيضحكون دونما فهمٍ وإدراك لما يقول أو مع من يتحدَّث؛ "لقد عملت حسابي على التقاعد في عمر الستين وكنت معولًا على السنوات العشر المتبقيةِ والتي ستنتهي خلالها كل قروضي وربما يوفق أحد أبنائي بوظيفةٍ ترفدنا وتعيننا على نوائب الدهر، مع العلم أنَّ أكبرهم يعتبر من كِبار الباحثين عن عمل، لماذا جاءت التنبيهات من القروض متأخرةً ولماذا لم يشدد علينا المعلم في المدرسة والإمام في المسجد التحذير، لماذا لم يشجعني أحد على التوفير والادخار وحتى البُخل، لكن "الجود يفقرُ والإقدام قتَّال" ومن خوفني حتى أبلغ الأمن خيرٌ ممن أمنني حتى أبلغ الخوف؟! ليتني أعود بالزمن 30 عامًا للوراء".
يجاوبهُ هنا التقاعد المبكر: لا شأن لي بما حلَّ بك وأنا لم أكن أكثر من مجرد حديث يدور هنا وهناك ثم جرى تجسيدي بالتوقيع على ورقةِ تقاعدك، فاسأل الجهات التي أقرضتك.
يقول الدائِن الأول: وأنا كذلك لا دخل لي ولم أُجبرك على شيءٍ وأنت الذي جِئتَنا بملء إرادتك، فعليك الآن تسديد كل التزاماتك وأنت ساكت، ولا أعتقد أنك تُحبذ فكرة ضربةٍ قاضيةٍ ثانية.
ويقول الدائِن الثاني: إذا رغِبت بالتسوية فلا بأس حبًا وكرامة، وسوف نخفضُ لك القسط الشهري ونمدده حتى تبلغ من الكبر عتيا إلى سن السبعين، وصحيح أن الأعمار بيد الله لكن نخشى أن تموت قبلها لذلك يتوجبُ عليك دفع تأمينٍ إضافيٍ على الحياة، فإن عشرة أعوامٍ فوق الستين ليست قليلةٍ ومخاطرها تُحتِّم علينا اتخاذ أعلى درجات الحذر.
يَستفيقُ المتقاعد من سوداوية أحلامه على صوت العامل أمام المخبز بعد أن وقع كل الأوراق التي أسرت عقله وكفلت استمراره في حالةٍ عميقةٍ من الهم والغم لما تبقى له من العمر، وبصوتٍ وجلٍ مخافة الرفض يطلب كيسًا من الخبز على الحساب، ثم يعود أدراجه إلى بيته وقد أهرق ما تبقى من ماء وجههِ العاكس لوميض اللون البرتقالي وعينيه المكسورتين على إشارة الوقود؛ فيضحك من شرِ البليةِ عندما يجد عامل تنظيف سيارتِه المُتهالكة والذي فقد والدهُ قريبًا ومرضت والدته بشكل مفاجئ وربما تتشرد عائلته مُطالبًا بأجرهِ لعدة شهورٍ ماضية.
عزيزي الشاب المقدِم على الوظيفة، اعلم أن العقل هو مناط التكليف الذي يترتب عليه الثواب والعقاب وأن مناط التكليف هو كسب الأفعال المعتمدة على توجهات مبنية على سلسلة متراتبة من التصرفات التي تميلُ النفسَ بترجيحاتها بين إطلاقها لأهوائها ورغباتها وإلجامها لكبح جِماحها، وإن الشلل سيصيب جزءًا كبيرًا من الفكر الإبداعي عند تراكم الديون، فاحذر من الاقتراض غيرِ المُبرر والذي لا ضرورة قصوى له، وفكِّر منذ بدايةِ مشوارك في ماذا وكيف وأين تُريد أن تكون بعد 20 عامًا من الآن، وضع خُططًا وأهدافًا لتحقيقها، ولا تجعل من نفسك صِناعةً للظروف فأنت من يصنعها، ولا يغرنَّك الحصير الذي يتقمص دور البساط الأحمر الملكي فإنه طولهُ المراوغ سيقصر مع تقدمك بالعمر وبهاؤه الوهمي سيبهت لتراه على حقيقته، ولا تنخدع كثيرًا بالابتسامات العريضة والتي ستصفّر مع مرور الوقت السريع ولا بحرارةِ الاستقبال في الشتاء والذي سيبرد تدريجيًا مع تعاقب الفصول حتى يبلغ مرحلةَ التجمدِ في صيفٍ ما.