عُمان في عينيْ شاعر عربي

 

محمد جربوعة

مُنذ القدم كانت البُلدان نوعين: نوع واضح جليّ لا إدهاش فيه، ونوع يخبئ أسراره خلف ما رسم الرحالة والمؤرخون والجغرافيون حوله من جميل الأساطير ومبهر الروايات.. فهو بذلك غامض يُثير في الأنفس الدهشة.

ومن هذا النوع الثاني، عُمان، وقد طرّزها من زارها ومن كتب عنها بأنواع من حرير ودمقس الكلمات، ونثر حولها من سحر الغرابة، ما جعلها مثار إعجاب واشتياق لزيارتها.

ربما كان بُعدُ هذا البلد جزء من صورته المضببة التي تستدعي الخيال.. على عادة النَّاس في إلباس المتمنع من الأشخاص والأماكن ما يجعله يستدعي الفضول والاستكشاف.

ولا أدل على بُعد عُمان من قول أبي بكر الصديق: (هلمّوا إلى دين النبي مُحمدٍ ولو كان في أقصى جبال عُمانِ).

ولا ريب أن هذا البعد جعل عُمان مطلباً لطالبي النأي والهجر، ومقصدا لطالبي الأمان..

وهوما حدا بالشاعر التميمي سَوّار بن المِضَرَّب السعدي لاعتبار عمان منجاة من طالبيه، إذ قال في ذكره البغدادي في خزانة الأدب، وغيره:

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميمٌ والفلاة ورائيا

وهو قريب مما قاله غيره إذ قال:

أَقولُ لأَدنَى صاحِبَيَّ نَصيحَةً وَلِلأَسْمَرِ المِغوارِ: مَا تَرَيانِ؟

فَقالَ الَّذِي أَبدَى لِي النُّصحَ مِنهُمَا:

أَرَى الرَّأيَ أَن تَجتازَ نَحوَ عُمانِ

ولعل هذا، ما جعل قيس بن زهير يختار عُمان ليترهب فيها وينقطع عن أمر الحرب والسياسة. وقد ارتبطت أرض عمان في الخيال العربي بأنها أرض البخور والعطور والحناء واللؤلؤ والعنبر، بكل ما يعنيه ذلك من متعة الحس في الشمّ وفي البصر.

ولئن كانت الهند في العالم القديم، هي جنة الألوان والأذواق والأساطير والتوابل والطيب، فإن عمان هي هند العرب، وهي جنة الجمال الذي يبدأ من كفّ صبية تجمّلها الحناء والخواتم، ولا ينتهي عند عمامة شيخ تتدافع فيها الألوان فتجعلها فتنة للناظرين.

إنّ زخارف الدنيا ومؤنساتها لا معنى لها أبدًا، إن كانت في مساحة ينغص فيها الخوف على الطمأنينة، والظلم على الدعة، لذلك لم تكن صورة البخور والعطور والعنبر والزبرجد وهمسات النجوم للسواحل كافية لتكون عُمانُ عُمانَ.

كان الأمر بحاجة إلى شهادة تطمئن النفس وتهدئ الروع وتبدد وحشة الغربة، فكانت شهادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو يقول عن رسوله الذي آذاه بعض أحياء العرب فسبوه وضربوه: (لو أنّ أهل عمان أتيتَ ما سبّوك ولا ضربوك).

إنّ هذا الارتباط قمين بالتأمل، وكأنك لكي تكون من أهل عمان، فإن المفروض عليك أن تكون عفيف اليد واللسان عن الأذى.. لذلك كله، لم يكن غريباً أن يغمض شاعر عينيه وأن يترك العنان لناقته لتتبع روائح البخور وهسهسات حليّ الفضة من أقراط النساء وأساورهنّ، ليجد نفسه أخيرا في عمان، وليكتب عن عمان وهو يطلق عينيه من مطلّ الطائرة نحو الصحارى العربية الممتدة التي تنتهي إلى مسقط:

بلدٍ من الفردوسِ قُدَّ، مطرّزٍ        

بروائع الديباجِ كالفستانِ 

ومعطّرٍ مثل العروسِ بفتنةٍ    

منْ مُعْطِر من باهظ الأثمانِ

بلدٌ به ما قد حسبتُ حسابهُ   

وكذا الذي ما كان في الحسبانِ

حتى التفاصيلُ الدقيقة عندها     

فيه من البصماتِ كالعنوانِ

حنّاءُ بركاءٍ، بَخورُ مُسندمٍ        

نظْرات ثمريتٍ إلى سمحانِ

واللمسة الخضراءُ والحمراء في    

ما تلبس النسوانً من ألوانِ

ورسائل الحوراء تخبر يَنقلًا     

بهوى الخطيمِ الرائع الفتّانِ

كلمات عبري وهي توصي فجأةً   

حصن السليف بشيخهِ سلطان

أقراطُ محضةَ، في مساء الأربعا     

عِشْقًا ترنُّ بسحرها الربّاني

وجَلُ الظباء عشيّةً بصلالةٍ       

تأتي مواردَها لدى حمرانِ                   

وتَغامُزُ الفيروز في  سهراتهِ        

تحت النجوم، بشاطئ البستانِ

وغناء نزوى وهي تَمْشُط شَعرَها    

وتقول للمرآة: ما أحلاني 

وتقول: (يا جبلا أحبّ شموخهُ)     

للأخضر المغرور بالرمّانِ

وببلدة العمقات من قصص الهوى 

ما لا يبوح بسرّه البرجانِ

لا شيء يشبهُ ما يقول ممازحًا:

بحبوحُ للرحيان في جعلانِ

وروائح التاريخ تذكر ما مضى   

في مطرح، في أقدم الأزمانِ

لا تخطئ العين العمانيّ الذي   

في ألف شخص من بني الإنسانِ

وتكاد تنطق إذ تراه معمَّما:

هذا- وإن شئتم حلفتُ- عُماني

في عينهِ نخلٌ وفي خطْواتهِ    

رملٌ وفي كفيْهِ ريحُ لُبانِ

بصباه يحفظ كيف يَكْبُر شامخا   

في طيبةٍ، وفضائلَ الفرسانِ

فيشبّ كالصحراء يعشق نفسهُ   

ويشيخُ مثل الأرز في لبنانِ

مستيقنا من نفسه، رغم الريا    

حِ السافياتِ وهجرةِ الكثبانِ

لا شيء يعجبه سوى ما لم يكنْ

لو كانَ أنى كان، بالإمكانِ

أنا إن سكنتُ ديارها فلأنني  

أختارُ جيرةَ حافظي الجيرانِ

وأنا وقد شهد النبي لأهلها 

لعلى كلام الصادق العدناني

شهد الرسول لها..بأن رسوله     

لو جاءها لأتى بلاد أمانِ

فأتيتُ مشتاقا أسوق قصائدي  

سوْقا كسوق البدو للأظعان

هي مذهبُ الإجماع في عشّاقها 

وعلى هواها يلتقي الضدانِ

إذ لا مجال سوى لرأي واحد  

فيها، وما في حبّها رأيانِ

ولئن كان لكل شاعر هائم في أودية الدنيا مسقطٌ لرأسه، فله أيضا مسقطٌ لفؤاده.. و(مسقط) عمان، هي مسقط فؤاد كل شاعر.

وقد قالوا: المكان بالمكين.

تعليق عبر الفيس بوك