مدحٌ بلا حدود

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

جاءت الحدود الشرعية لتحقيق أمن المُجتمعات من خلال الحث على الأعمال الصالحة وترويض النفس الإنسانية وتنزيهها عن المعاصي وما يترتب عليها من سكينةٍ واستقرار ثم ثوابٌ وعقاب، كالذي يقيمُ سدود الماء ليكبح طغيانه ويتجنب أضراره ثم يُذعنه لخدمته ويوجهه ليستفيد منه.

وكذلك أقام الإنسان الحدود بين الدول للحفاظ على هوية مجتمعه من عشوائية الاختلاط والتحكم بمقدراته وتسخير خيراته في خدمته وحمايته من تدخل الغير وما شُرع لاحقاً من سماحيات التنقل القانوني ثم عواقب مخالفتها كبناء السور حول البيت، ما أفرز الحس الوطني الخاص على المدى الطويل حتى دخل في الأدبيات وطال الشخصيات وبات يُعد ضرباً من ضروب التفاخر والتباهي، وظهور صنوف شعرية ونثرية في باب المدائح والمحامد والتفاضل بالأحساب والأنساب والبشر وتمجيد الشجر والحجر، ولا يعد كل ذلك من غريب القول أو مُستهجن الشعور بعدما أصبح أساسًا في وشائج المجتمعات ونسيج الثقافات.

كان التبادل الثقافي في السابق يعتمد اعتماداً كلياً على تنقل الناس بأجسادهم بين الحواضِر ومن مكان إلى آخر وكلٌ يحمل معه في رأسه أفكاره ومُعتقداته ولازال مستمراً في بعض الدول بغية زيادة القوة البشرية، والسطوع أخيراً للصالح منها وما يجد طريقهُ إلى القبول في تسيير حياة الناس الدنيوية والروحية مقابل خبوت السيئ وانكفائه على نفسه وراء حدود المحرمات وسدود المنهيات وأسوار المكاره لتأتي سماحة الشرائع وصرامة القوانين وتضع قولها الفصل.

لقد أحكم فضاء الاتصالات اللامحدود على الأرض قبضته وبدد نفوذها على حدودها وبسط هيمنته على مداخلها ومنافذها، فلم يعترف بقوانين المجتمعات المحلية ولا هوياتها واعتبر حريات الاختلاط الفكري فيه من العشوائيات الخلاقة ولم يتقدم بطلب إقامة وتأشيرة، فجسور الانفتاح الخفية تثقب سدود الاحتواء وتتعدى حدود السيطرة وتتسور حوائط الحماية مواصلةً تعزيز افتراضياتها في مواجهة مباشرةٍ مع واقع الوازع الشخصي والأخلاقي والتشريعي، فحرية الرأي والتعبير التي كانت محصورةٌ سابقاً في نطقٍ جغرافية مقيدةٍ بالحدود الحقيقية والوهمية ووسائل نشر بطيئةٍ وبدائية لم تعد كذلك اليوم بل على العكسِ تمامًا، حيث بات من غير الضروري تنقل مجموعات الأجساد برؤوسها وعقولها من مجتمعٍ الى آخر وعرض أفكارها ومعتقداتها في ممارسات التعامل المباشر للقبول أو الرفض.

لا شك أنَّ النفس تطربُ بالمدح وإن جاء في باب الكراهة مخافة مفسدةِ الإفراط، وقد جُبل الإنسان على ذلك مع استثناءات بسيطة جداً كالعارف الذي يسوؤه المدح وإن كان مستحقاً، وبمرور الوقت تتنامى لديه تلك الكراهة حتى يبدأ بتجفيفِ منابع حب الظهور في نفسه وسد مهايع الشُهرة من حوله وإن تهافتت عليه تهافت الزجاج، إلى أن يسمو به إلى صفيحٍ عالٍ من الحكمةِ فيصبح المدح في مرحلةٍ من مراحل العمر من سقط المتاع وغير مقبولٍ ولا مردودٍ عليه، "وكل كاسرٍ مكسور".

يتباينُ الناس في الحس التقييمي لتقبل ورفض المدح أو المادح ونوعية المِدحة وتوقيتها ومناسبتها مع تشابك المجتمعات وتداخل الخصوصيات وتقنين الأولويات بحسب الأهمية والضرورة، بيد أنَّ المدح يستمر بعمله في معزلٍ عن تلك الضوابط ويزداد حوله المعجبون وتتضخم فيه عبارات المؤلفين ويتنافس عليه المتنافسون في شحذ هممهم واستخلاص رحيق أفكارهم من كلمات تعبيرية وجملٍ تصويرية تسدعي أحيانًا الوقوف والتصفيق لها لا للمادح أو الممدوح، وهو الشأن الوحيد الذي لا تطالة يد القانون باستثناء من جاء بكبيرةٍ بذت الأولين والآخرين.

نُلاحظ ازدياد مؤشر المادحين لبلدِنا من وراء الحدود مع قليلٍ من المدائح العابرة للقارات ولكن لم نلحظ عليها غلوًا أو شططًا؛ كونها جاءت لسببٍ أو آخر بما لمسوه ولاحظوه من تحضرٍ وتقدمٍ يسير مُضارعاً للثقافة والتراث أو بيئةٍ وطبيعةٍ لم تتأثر كثيراً بمدنيةٍ صارخة، أو عادات وتقاليد راسخةٍ كأنها لاتبالي بما يحدث حولها من متغيرات عالمية، أو سياسةٍ واقتصادٍ يعملان بوتيرةٍ متسارعةٍ وتناغمٍ منسجم، ونستثني إسفاف القِلة المقَنَّعة بسُتر المعرفات الوهمية فما هم إلا نباحون في أثر القافلة.

عموماً.. تستثار ردود الأفعال حول تلكم التقريظات عندما يُقال: نحن نحب المدح ونكره الذم. حسنًا ومن لا يحب المدح ومن لا يكره الذم؟! نعم تحبون المدح من الغريب وتميلون له كل الميل وإذا انتقدكم غريبٌ آخر ثرتم ضده وانقلبتم عليه وكأنما أتى بما لم تأتِ به الأوائل وكأنما تعيشون في المدينة الفاضلة؛ فنقول: ولماذا تحمِلون ذلك في حقنا على محمل السلبية؟!

ما زال مجتمعنا إلى حدٍ ما بخير إذا ما قورن بغيره ممن يلوون أعناق ثقافاتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم لتتواءم كرهًا مع الحداثة المتربصة بهم، وما زلنا نتمتع بذلك الحس التقييمي العميق تجاه المدائح والمادحين وشبه إجماعنا هو مصداق ذلك؛ نعم نتقبل المدح من الغريب ولا ضير، كنوعٍ من الإطراء لما أراد أن يحدِّث بما جالت به خوالجه ولكن غالباً لا نتقبله من القريب إذا خالطه مبالغةٌ وإسراف فساكن الدار أعلم بحالها من غيره، كذلك عندما لا نتقبل النقد كثيراً من الغريب كونه أقل معرفة ودراية بحالنا والأولى به توجيه نقده في حدوده لما يهم ويخدم بلده فإننا لم نعتد من أحدٍ ممارسة دور الوصاية علينا، ولكن نقبل النقد المتزن من القريب الذي هو على علمٍ وثيق بأحوالنا واحتياجاتنا ولا نقف ضده أو نثور في وجهه لعلمنا المُسبق أنه ما أراد بذلك إلا خيراً ونصطنع الحلول فيما بيننا دون تدخل أطرافٍ خارجية لا نعلم مدى نواياها.

ليس كُل من ينطق بالحكمةِ حكيماً ولا كُل من ينطق بالموعظةِ واعظا وما أجمل أن تتأثر الأفعال بهداية الأقوال، وليس كُل من ينطق بالوطنيةِ وطنياً ولا كُل من جاء بالمدحٍ صادقًا وما أقبح أن تتأثر الأفعال بضلالةِ الأقوال.