التحرش

 

عمرو العولقي

الصامتة عيونهم، والمخاطة أفواههم، أولئك الذين يخشون الصراخ، ويرعبهم وحش الألم، يتعذبون وأنفاسهم تحسب الوقت وينتظرون ذلك الوحش الذي يتجسد بعدة أشكال وفي كثير من الأماكن، فتارة ما يكون على هيئة طالب في المدرسة، عامل في محل، معلم، أب، عم، خال، أخ، مدير في العمل، مسؤول في مكان ما، مشهور، طبيب، ممرض، زوج أم،  إلخ إلخ...

ذلك الوحش قد يرتدي أي بزة، وقد يرتدي أحيانًا ثوب قداسة، لكنه مهما اختلفت ملابسه وهيئته فهو ذات المجرم الذي يتقن "التحرش". قد يقول قائل إنَّ هذا الأمر لا يجب أن نناقشه أو نتحدث عنه، وإنه من المعيب أن نطرحه للنقاش، ويرى الطفل أو المرأة التي تتحدث عن متحرش بأنهم بلا حياء، وأقول إن الحياء إذا كان تستراً يجعل المتحرش ينعم بهذا الخوف من الحديث، فالتكتم هو سلاحه، وعدم نقاشه وكشف أفعاله بداعي القيم والأخلاق المجتمعية التي لا تسمح بالحديث عن هكذا أمر هو تعزيز وتقوية للمتحرش الخفي ومن وراء الكواليس وستسقط الضحية تلو الأخرى ولو كانت أعدادهم قليلة.

فخلف الجدران؛ حيث تنهمر الدموع بصمت هناك من يتعذبون جراء ما يتعرضون له من تحرشات أو اعتداءات ولا يستطيعون الحديث عنها أو الشكوى، ويبدأ الموضوع منذ الصغر، بمجرد أن يبدر من الطفل تصرف غريب أو ينفر من مكان ما أو شخص ما، أو يكره المدرسة ويبكي بلا سبب وتجبره أنت على الذهاب دون أن تعرف ما الذي قد يتعرض له، ولا تستمع لحديثه ولا تنتبه لإيماءاته، ولا تنتبه لحزنه وسرحانه الطويل، لا يهمك نفوره من المدرسة بقدر ما يهمك تحصيله العلمي، لا تلاحظ سبب انخفاض مستوى أدائه الدراسي أو إظهار بوادر عنف غير مُبرر، لذا فإنَّ أي تصرف غريب تراه من طفلك عليك أن تهتم به كثيرًا، واجعله يشعر بحمايتك له ووقوفك بجانبه، ولا تيأس من اكتشاف سبب تصرفه مهما كان انشغالك.

لكن ماذا إن كان الطفل يتعرض للتحرش من بعض مرضى النفوس الذين يعيشون في مُحيط عائلته، هنا تقلب المعادلة وتكون التوعية من المدرسة واحتواء من يتعرضون للتحرش والاعتداء من داخل المدارس، وليس ذلك بالأمر الصعب، فإقامة ندوات ومحاضرات مكثفة لتوعية الطلاب يملؤها الإحساس بالدعم وعرض المساعدة مع الحفاظ على السرية والخصوصية، واحتواء الشكاوي من قبل الأخصائيين الاجتماعيين في المدارس ثم التعامل مع كل حالة على حدة وتقديم الدعم اللازم لمثل هذه الحالات، ولابُد أن تقام هذه المحاضرات كل حين وآخر، وتوضع النشرات الدورية ليقرأها الطلاب مزودة بإيميل ورقم هاتف الأخصائي الاجتماعي، وهنا فإنَّ الأخصائي يكون على عاتقه مسؤولية جمَّة، بل وعلى الوزارة أن تختار من هم على خلق عال، وكياسة وصبر، ليعملوا في هذا المجال، فالأمر جد حساس وجد مهم.

ولنعرج على الطالبات في الجامعات، أو الموظفات في كل القطاعات؛ لأنَّ كلا الوضعين متشابهين، فهناك شريحة منهن تتعرض للتحرش، لكن المتحرشين يتعاملون مع نساء تجاوزن الثامنة عشرة لذلك قد تختلف طرق التحرش بهن، وكل مجرم وله طريقته الخاصة، فربما كان التحرش لفظيًا، وربما بمراسلات خاصة خارج أوقات الدوام الرسمية، أو بمزاح يحوي ألفاظًا خارجة عن الأدب، أو مزاح به إيحاءات، أو تعليقات على الجسم أو على الملبس، أو إلقاء عبارات غزلية، أو تقديم هدايا بدون سبب حقيقي، وغيرها.. هذه كلها أدوات تحرش يستخدمها المتحرش كوسيلة للوصول للضحية. وأحيانًا تقع في هذا الفخ كثير من الفتيات الحييات اللائي يخجلن من الرد أو لا يعرفن كيفية التصرف، فيقوم المتحرش بتكثيف المحاولات للإيقاع بالضحية تدريجيًا، وسيكون عند وصوله لهذه المرحلة أمام طريقين لا ثالث لهما، إما بالإكراه إن رأى ضحيته ضعيفة تخاف من الاعتراض أو المواجهة أو تشكيل خطر عليه بكشفه وفضحه، أو بالإغواء؛ سواءً كان ذلك بمحاولة جر ضحيته بشتى سبل الإغواء لتحقيق مراده.

وهناك أيضًا متحرشو الطريق العام، ممن يستهدفون النساء وهن يقدن سياراتهن في الشوارع العامة؛ حيث رأيت بأم عيني ذات مرة سائق سيارة وبجانبه صديقه أو قريبه، يتصرف كالمجنون ويخرج رأسه ويديه بطريقة مبتذلة دون مراعاة للذوق العام، بينما السائق يحاول الاحتكاك بالسيارة الأخرى، وكلما فعل ذلك جعل السيارة الأخرى تنحرف عن مسارها قليلًا، وظننت حينها أنَّه ربما يمازح أحد أصدقائه، ولكن حين اقتربت من السيارة الأخرى التي كان علي لزامًا أن أقف بجانبها الآخر عند تقاطع إشارة المرور، وجدتها فتاة تمسك المقود بكلتا يديها وشعرت بخوفها حين فتحت إشارة المرور والتفت بسرعة وكادت أن تصطدم بسيارتي، فهرب المتحرش وولى فارًا.

إذن.. السكوت هو البطاقة الخضراء التي نمنحها للمتحرشين، مهما اختلفت أشكالهم، ومهما اختلفت مواقعهم أعرف جيدًا أن مقالي هذا سيزعج الكثيرين ممن يعلمون جيدًا أنهم متحرشون، لكن لا يجب أن نمنحهم تلك المنطقة الآمنة ألا وهي السكوت، على الجميع أن يكون ملمًا وواعيًا وعارفًا أن المجتمعات في ظل التقدم والرعاية القانونية التي توفر الأمن والأمان لكل مواطن ومواطنة، هي بمثابة السلاح الذي يستخدم في وجوه المتحرشين، لكن علينا فقط أن نتعاون جميعًا في كشف هؤلاء المتخفين وراء أقنعة القداسة والأدب والعلم، ووضع حدود لتحجيمهم وقمعهم، فلا صلاحية لهم ليتخذوا من الأبرياء أهدافًا ليحققوها، ولا تهاون مع كل شخص عرفنا أنه متحرش، فلابُد من اتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم، وحين نجد أن المتحرشين يقعون واحدًا تلو الآخر لربما استطعنا أن ننظف المجتمع من هؤلاء وإن كانوا شرذمة قليلة لكنها موجودة.

تعليق عبر الفيس بوك