محطات سيكولوجية!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"الأمس هو التاريخ، والغد هو المجهول، أما اليوم فهو الهِبَة" إيه. إيه ميلني.

*****

الحياة قصيرة الأجل وطويلة الأمل، كم من عزيز أفتقدناه منذ سنين ومازالت ذكراه ماثلة، في حياتنا تنفتح أبواب الغياب على عدة مدارج متأرجحة بين الماضي والحاضر، نعلم تمامًا أن هناك حضور لكنه أشبه بالغياب، وغياب بعيد لكنه حاضرا لايفارقنا، صراع البشر مع أزمة التعلق صراع صعب الفوز به، لكنه فوز الخسارة التي تكمن بأنها فوز الاستمرار بالتعلق بلا أمل الحضور.

والتعلق مجموعة من المشاعر تتضافر فيما بينها كي تعلق صمتك بضجيح ذكرى، قد يكون إنسانها حاضرًا في الدنيا، لكنه في الحقيقة غائب حتى عن جهات الاتصال، للمرض أحيانًا عذرًا مقبول عند الكرام، والمرض بالذات هو غياب قسري، لذلك من الشيمة ألا ننهكه في تواصل قد تكن مضاره أكثر من المرض نفسه!

ويحضرني بيت أبي الطيب المتنبي:

تصفو الحياة لجاهل أو غافل

عمّا مضى فيها وما يتوقع

قال لي أحد الأحبة إنه كان بالقرب من والده- رحمه الله- في فترة المرض العضال والذي كان في حالة غيبوبة، يقول بتأثر بأنه كان يكلمه وهو في غيبوبته وكأنه حاضر الوعي ويسمع له، ثمة شعور غريب بداخله يؤكد له سماع لحديثه وهو الذي مغمض العينين تحت غياب تام عن الوعي، يقول بأنه كان يتحدث إليه ببعض الأمور التي يحب سماعها، ويتلو  له آيات من القرآن الكريم، ويحدثه عن أمور العائلة والبيت وما الذي جرى اليوم، حتى القصائد التي يحبها والده كان يلقيها عليه، ولا أعلم كيف أتى هذا الشعور الذي تصرف به هذا الصديق. أعتقد أنه تصرف نفسي قبل أي أمر آخر، الإحساس بالحضور الذهني رغم غياب الذهن والوعي لا شك حالة نفسية وأعتقد أنها مليئة بالوفاء والأمانة لوالده. وعلى ذكر هذا الأمر، وهنا لن أتحدث في شأن طبي ليس من مجالي ولا بشأن سيكولوجي وأيضا لست من متخصصيه، لكنه ظنٌ على أية حال، وهو أعتقاد بأن حالة الغيبوبة قد تشبه حالة النوم، أو على الأقل بينهما تشابه، وهنا أتساءل: هل الإنسان الذي تعرض لغيبوبة يسمع ماحوله أو يشعر أو حتى تأتيه الأحلام مثل النائمين؟

تساؤلات لا أعلمها، لكنها تبقى تساؤلات غير المختصين، الأكيد أن العلم بحر عميق، والطب فيه من الأسرار ماهو معلوم وغير معلوم.

وأيضا هنا تذكرت قصة الشاعر دسمان السبيعي والذي عندما تعرض والده- رحمه الله- لعدة جلطات، آخرها منعته عن الكلام، وظل ملازمًا له ويعتني به يدلكه ويغسله، ويتحدث إليه بأمور البيت وأحواله، وتمر الأيام وإذا بوقت الفجر المريض الشايب ينادي ولده باسمه مرة أو مرتين وولده يفز من نومه وقال ليلبيه، وفهم أنَّ أباه يريد ولده يعدله على السرير وعدله ورجع لفراشه بعد ذلك فارق النوم عين الابن الوفي دسمان وداهمته الهواجس التي ولدت قصيدة منها :

لبيك لبيك ياصوت يناديني

لبيك من بدة القاصين والداني

لبيك لبيك من قلبي ملاييني

لبيك لبيك ثم لبيك بلساني

أعرف صديق علم بمرض صديقه الذي هو من بلد بعيد عن بلاده، وقد علم فقط بالمرض، لكنه لم يعلم ما هو المرض، وكيف حالته وهل هو في مستشفى أم في منزله، حتى التواصل أصبح من جهته فقط بلا رد، وكأنه يرسل لنفسه، وبالطبع ولا شك وفي مثل هذه الأحوال لم يملك سوى التوقف عن محاولة التواصل لأنه لا مجال لذلك كما فهم، لكنه استمر في الدعاء الطيب له بالشفاء، وحتى الصدقة تصدق عنه سائلا الله القبول. في مثل هذه الأمور يكون الوفاء هو الأمر الأولى بالاتباع، فأحيانًا لا نعلم عن ظروف تحدث بعيدًا عنَّا، لكن علينا إحسان الظن، واتباع فضيلة الوفاء التي أهم خواصها الدعاء الخالص للأحبة، رحم الله الجميع أحياء وأمواتا، ورزقنا وإياكم الصحة والعافية.

للوفاء صوره المتعددة، وكم من علاقات مودة تجمعنا مع من لم نقابلهم وجها لوجه حتى لو مرة، هو التآلف الروحي، وهو خاصية إنسانية خالصة لاعلاقة لها بمصلحة او استفادة سوى الود والمحبة، وسبحان من جمع قلوبًا عبر آلاف الأميال من المسافات، أحيانًا يكون الأمر كأحلام اليقظة، هكذا الأمر كما أظنه!

التواصل في عصرنا الحالي ليس مشروطا بالمواجهة وجهًا لوجه؛ بل التقنيات الإلكترونية أصبحت تنقلنا لمصاحبة أصدقاء وليس صديقا وحسب، هناك مجموعات من البشر من بلدان مختلفة تجتمع في مجموعات تتواصل عبر وسائل التواصل، أناس يتواصلون دقيقة بدقيقة مع أقرانهم من بلدان بعيدة جداً عنهم، وهنا أتساءل هل التقنيات الإلكترونية عبثت في مفهوم وتعريف التواصل الإنساني؟

ما سبق عدة مقالات كتبت بمقال واحد، واختر ما شئت منها، ولك ماشئت، والكتابة هي فن المعنى مثلما السياسة فن الممكن، وفي أوساط الشعراء يتم تداول قاعدة: المعنى في بطن الشاعر.