عبد الله العليان
اهتم المفكر والأديب الأستاذ أنور الجندي، في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، بقضايا الاختراق الفكري والثقافي، وكتب العديد من الدراسات والمقالات الصحفية، من خلال التركيز على تصحيح المفاهيم والمغالطات التي بثها التغريب الاستشراقي.
كانت كتابات وبحوث الأستاذ الجندي في مرحلة الأربعينيات والخمسينيات، متعددة في نقد مؤلفات وكتابات أخرى، وهي الفترة التي بدأ فيها بالكتابة؛ إذ كان اهتمامه الأكبر بالأدب والنقد- كما أشرنا في مقالاتنا السابقة- لكن عندما أحس بحركة الكتابات والمؤلفات الضخمة التي خُطط لها لعناية ودقة مخططات التغريب والاستشراق، أعدّ نفسه بالفعل للكتابة والرد على الكثير من هذه الكتابات التغريبية، لمواجهة هؤلاء أو من تابعهم ممن أُبهر بالغرب وفكره ونظرته للآخر المختلف عنه، وأصبح من أبناء الأمة من يروجّون لما يقوله المستشرقون من آراء وأفكار ومن تحريف وتزييف بعض المفاهيم الثابتة في فكر الأمة، وكأنها حقيقة لا مراء فيها، لتشويه الفكر العربي الإسلامي، وذلك من خلال طرح بعض المضامين المشّوهة والمنحرفة عن حقيقتها. وهذا يهدف إلى التهوين من الفكر والدين والقيم عمومًا؛ فالأستاذ الجندي تصدى لهذه المقولات والمفاهيم المغلوطة، التي يُراد منها نزع قدسيتها وأهميتها ودورها في النهضة والتقدم، مع أن الغرب عندما كان في العصور المظلمة، لم يخرجه مما يعانيه من جمود وتخلف، إلا استمداده من الحضارة العربية/ الإسلامية ومفكريها البارزين، سواء في الجانب العلمي التكنولوجي، أو في المجال الفكري والنهضوي.
الأستاذ الجندي في بحثه "تصحيح المفاهيم الإسلامية"، ناقدًا الهجمة الشرسة من المستشرقين الغربيين للثوابت الفكرية العربية الإسلامية وقولبة مضامينها، ومحاولة جعلها أفكارا مستوردة من الفكر الغربي المسيحي واليهودي، أو القول إنها تتقارب مع الفكر الغربي ولا تخالفه في قضايا جوهرية؛ إذ يرى أن "أخطر المحاولات التي تحتاج إلى الانتباه الوافر: من محاولة وضع الإنسان في موضع تبرير القيم الغربية باسم سماحة الإسلام وانفتاحه وقابليته للجديد ومسايرته لظروف الأمم والحضارات، ولا ريب أن للإسلام قواعد كلية لا سبيل إلى النزول عنها وخاصة علاقة المرأة بالأسرة في المجتمع وعلاقة المرأة بالرجل والحدود ومسائل الربا، كذلك فللإسلام أصول ثابتة في المعاملات. كل ذلك ليس موضع تبرير أو تأويل، لأنه هو الدعامة الصحية للمجتمع الإسلامي، أما ما عدا ذلك... فنهاك مجال الاجتهاد فضلًا عن سعة الأطر ومرونتها التي تجعلها كفيلة بالصلاحية لكل البيئات والعصور". وهؤلاء المستشرقون- كما يرى الأستاذ الجندي- ومن سايرهم من أبناء جلدتنا، استخدموا كل الطرق والوسائل، ومنها حتى الفنون المختلفة لتغريبها، وجعلها تناسب مجتمعاتنا، وتشويه القيم الثابتة فيها، بمقولات الماضوية والرجعية وتجاوز الماضي بكل ما يحتويه، بينما نجت مقولات التجديد.
وهذا القول لم يقله الأستاذ الجندي وحده، لكونه ينطلق من الرؤى الفكرية العربية الإسلامية؛ بل إن هذا القول قاله أيضًا مفكرون عرب لهم توجهات فكرية أقرب للنظرة اليسارية والليبرالية، ومن هؤلاء د. حسن حنفي، ود. محمد عابد الجابري، ود.عبد الإله بلقزيز وغيرهم من الباحثين.
يقول د. حسن حنفي في كتابه "مقدمة في علم الاستغراب": "إن التغريب نوع من الاغتراب بالمعنى الاشتقاقي للفظ؛ أي تحول الأنا إلى الآخر. لكن بعد الاستقلال الوطني عاد المستعمر من خلال الثقافة، وانتشر التغريب. استقلت البلاد لكن اٌحتلت الأذهان". وهذه هي المشكلة الخطيرة فيما قاله الاستشراق؛ لأن الاستعمار وإن ذهب فقد ترك ممن يقوم بالدور نفسه في القيام بما خُطط له. وفي كتابه "الإسلام والدعوات الهدامة"، يرى الأستاذ الجندي، أن التأثيرات الغربية في العقل والإيمان فعلت فعلها في هذا العصر، وجاءت بها الفلسفات المادية التي أربكت الفكر الإنسانية على مستوى الإنسانية كلها، ولا شك أنها طرحت مضامين من خلال: "محاولة توصيف الإسلام بمصطلحات الفكر الغربي هي محاولة ماكرة خبيثة ترمي إلى صهر مضامين الإسلام في قوالب وافدة ليست من صنعه ولا من طبيعته، وهي بالأحرى إخراج له عن ذاتيته الخاصة ووجوده الأصيل، وإلّا فلماذا هذه المحاولات المتعددة لوصف الإسلام بالديمقراطية حينًا وبالاشتراكية حينًا ولوصفه بالعقلانية في كتابات متعددة تجري اليوم على الأقلام والألسنة تشبيهًا بالعقلانية الغربية التي يتسم بها الفكر العلماني والانشطاري القائم على الفلسفة المادية والتفسير المادي للتاريخ وتجاهل غير المحسوس".
ومما قام به المستشرقون من محاولات التغريب وقولبة الحقائق الثابتة، سواءً في الفكر أو القيم أو التاريخ. ومن هذه الأعمال التي شيدها الاستشراق، وجعلها متاحة للأخذ والنقل منها "الموسوعات العلمية والمعرفية"، ومنها: "دائرة المعارف الإسلامي"، و"الموسوعة العربية الميسرة"، و"قاموس المنجد"، وهذه الجهود كما يقول أنور الجندي إن: "هذه الموسوعات زائفة من حيث إنها مقدمة بأقلام مستشرقين متعصبين، لبعضهم صفة الولاء الكنسي، والآخرون لهم صفة الولاء الاستعماري والصهيوني والماركسي، وهي قد كتبت أصلًا لتقدم للشباب الغربي، الذي يعدونه للعمل في الأقطار العربية والإسلامية، من حيث يشكلونه على مفاهيم معارضة لحقائق الإسلام، ليكون ذلك وسيلة لعملهم في تشويه حقائق الإسلام وإلقاء السموم وإثارة الشبهات".
وهي ليست أعمال خالية من الأهداف والمرامي من المستعمر الغازي؛ بل هي مخططات للتغريب، وإن كان بها الكثير من الحقائق، لكن لا تخلو من سموم هؤلاء المستشرقين وأتباعهم فـ"قبل أن يصدر المستشرقون الخمسة من كتابهم "وجهة الإسلام" في أوائل الثلاثينيات من هذا القرن لم تكن كلمة "التغريب" معروفة أو متداولة، حتى ليمكن القول إنه أول من طرح هذا المصطلح هو كبيرهم هاملتون جب. ويعني به القدر الذي أثرت به الثقافة الغربية في الإسلام. وتركز عوامل التغريب على التربية والتعليم والصحافة ومقومات الحياة وكانت في أكثرها ترمي إلى التفرقة بين الحياة الزمنية، والحياة الروحية الدينية".
والحقيقة أن بعض ممن تبع وقلد الاستشراق، واعتبر ما قاموا به من جهود، بمثابة قمة العلمية والمنهجية، ومن هؤلاء عميد الأدب العربي د. طه حسين في مرحلته الأولى، وقد خصص الأستاذ أنور الجندي العديد من المؤلفات للرد عليه منها كتابه "محاكمة فكر طه حسين"، لكن د. طه حسين تراجع عمَّا قاله في تلك المرحلة، خاصة كتابه "في الشعر الجاهلي"، وهذا ما أكد د. محمد عمارة في كتابه "طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام"، وهناك من الكتاب والباحثين، حصل منهم أيضًا نزعة الانبهار بالأفكار الغربية؛ سواءً الليبرالية أو الماركسية، أو الوجودية، وكتبوا هذه في مذكراتهم، ومنهم حتى د. محمد عمارة، وعادل حسين، ومنير شفيق، ومحمد عابد الجابري، وخالد محمد خالد، وغيرهم من المفكرين في الوطن العربي. وقد تكشف لهؤلاء مما ظهر لهم من حقائق كانت خافية من: "حقائق كثيرة عن فساد العلوم الاجتماعية، وأخطاء الحضارة الغربية ونقصها وعجزها عن وجود البعد الرباني بها واضطراب المجتمعات الغربية، بل لقد كشف الباحثون الغربيون المصنفون عن أن الحضارة الغربية تمر الآن بمرحلة السقوط والهزيمة فكيف يمكن قبول فكرها في هذه المرحلة، والعالم كله يتوجه إلى الإسلام ليجد فيه منقذًا مما يمر فيه من أزمات حالكة مدمرة".
ولذلك المراجعة العقلية والمنهجية، تحتم أن تُعاد النظرة لكل ما يطرح من أفكار، وهذه بلا شك تجعل العجل متحركًا يدور مع الحقيقة كما تدور، وليس جمودا ثابتًا لا يتحرك.