سيدة كمزار

هند الحمدانية

كلما اقترب أكتوبر اقتربت معه زخارف أزياء نساء عمان وبريق حليهن الفضية والذهبية وأصالة ماضيهن وحاضرهن التي تجسدت بيوم المرأة العمانية، والذي تضج معه مخيلاتنا بصور الجمال والكفاح والعظمة والنبل، وتتملكنا تلك الروح المتقدة التي تصرخ فينا بقصص العمانيات الماجدات واللاتي خَلَقنَ من العدمِ وجودا ومن اللا شيء شيئاً ومن الأحلام واقعاً ومن الظروف العصيبة والموارد الشحيحة واحاتٍ غناء وأنهار، وينابيع وازدهار ونماء.

ويشرفني كثيرًا أن أفتتح حكايات المرأة في أكتوبرها المنتظر، بالحديث عن امرأة خارقة، زلزلت كياني في كل مرة استذكر فيها بطولتها العظيمة التي لم تكتب عنها الصحف ولم تتردد على مواقع التواصل الإلكتروني، بل ربما لم يسمع بها أحد.

سيدتنا العمانية النبيلة أمٌّ فاضلة من شمال عماننا الحبيبة، وبالتحديد من قرية كمزار الصغيرة الموجودة في أقصى شمال رؤوس الجبال بمحافظة مسندم، وهي قرية بجمال فريد؛ حيث تلتقي عندها سواحل البحر اللؤلؤية مع صلابة جبالها الصخرية العتية، ولأن موقع كمزار كان مزيجا تضاريسي متباين بين البحر والجبال الشاهقة، لم يكن لسكانها البسيطين سواء إعمار منازلهم على جانبي الوادي العميق الذي كان يتوسد جبال كمزار، ولم يكن هناك مع مرور السنوات فرصة للتوسع العمراني والبناء إلا فوق الجبال، وهناك على جبل كمزار كانت أول مدرسة تعليمية فتحت أبوابها لاحتضان أبناء كمزار الصغار.

أُمُنا الفاضلة كانت تعيش مع عائلتها في منزلهم الكائن بجانب الوادي، زوجها رجل كمزاري أصيل امتهن مهنة الصيد منذ نعومة أظفاره وأعتاد طبيعة كمزار العنيدة بشواطئها وقمم جبالها العجيبة، لديها عدد من الأبناء الصغار، أكبرهم محمد وهو الابن البكر وكان طفلا شغوفا جدا يحب أن يتعلم الجديد ويحب أن يتحدث وأن يكون ظاهرا للآخرين، لكن محمد كان يعاني منذ طفولته من شلل الأطفال في إحدى قدميه، وكان يشق عليه أن يتسلق أو يمشي مسافات بعيدة، ومع ذلك لم يكن محمدا مباليا كثيرا بهذه الإعاقة لأنَّ قلبه كان معقودا بحب الحياة والتعليم وطموحاته التي فاقت سنه، أصبح محمد في عمر المدرسة، ذهب أصدقاؤه ومن في عمره إلى مدرسة كمزار على امتداد الجبل لكن محمداً لم يستطع أن يواكب من هم في عمره بسبب إعاقة قدمه، كان الأطفال يمشون مسافة بعيدة على صعدة الجبل، كان الأمر شاقاً جدا ويحتاج إلى جهد كبير ويحتاج إلى قدمين سليمتين، حاولت والدته مساعدته بشتى الطرق؛ حيث إنها كانت تحمله أحيانا على ظهرها وتصعد به نحو المدرسة ولكن الأمر كان متعبًا وشاقًا جدًا بالنسبة لامرأة ضعيفة البنية؛ فأصابها الهم وأحست بالعجز كلما رأت محمداً ينتظر أصدقاءه الصغار من أبناء الجيران عائدين من المدرسة محملين بالكتب والحقائب وهو ينظر إليهم بعين الحنين إلى ذلك العالم الذي تربع قمم كمزار العالية، ذلك العالم الذي لطالما رسمه محمد في مخيلته الصغيرة بألوانٍ من اللهفة والأمل والشغف وطموح التعلم.

لكن اللهفة بدأت تنطفئ مع كل يوم ثقيل يمر عليه وعلى والدته التي كانت تنتظر فرجًا من الله ومن حيث لا تحتسب. في العام التالي التحق الأخ الأصغر لمحمد بالمدرسة، وأصبح يذهب يوميًا ويعود ومحمد يودعه ذاهبًا وينتظره بالشوق حين عودته، كان محمد يحاول أن يتعلم من أخيه، يحاول أن يتعلم معه ومنه، يحاول أن يتعلم الأحرف والأرقام، كانت أمه تراقب هذا الشغف الذي كان يكبر معه يومًا بعد يوم، كانت أمه تبتهل لله أن يرشدها لوسيلة يستطيع محمد من خلالها الالتحاق بالمدرسة، حاولت أمه مرارًا وتكرارًا أن تقنع والد محمد بالانتقال للعيش في ولاية خصب؛ حيث كانوا يملكون منزلًا بسيطًا هناك يزورونه في موسم القيظ من كل صيف، ويقضون الصيف هناك ثم يعودون إلى كمزار، لكنها لم تستطع إقناعه بالانتقال؛ لأنه كان رجلا ذا تفكير تقليدي بسيط، وكانت روحه مغروسة في أرض كمزار، وكان من المستحيل عنده أن يترك شواطئ كمزار الزرقاء وجبالها التي تحفها من كل اتجاه، لقد رفض رفضًا قاطعًا السكن في خصب، لكن الأم حاولت إقناعه بأن تترك محمدا في بيت خالته في خصب ليستطيع الالتحاق بمدرسة قريبة ومناسبة له هناك، فوافق الأب بعد إصرار.

بقي محمد في بيت خالته في خصب، والتحق بالمدرسة مع أبناء خالته، كان محمد مجتهدًا جدًا وكان له قبول مع جميع أساتذته، وذلك ما أثار غيظ بعض زملائه وبدأوا في التنمر عليه والاستهزاء بإعاقته، وأن أسرته تركته وحيدًا في خصب، وعندما جاءت أمه لزيارته، وجدته مُختلفًا عمّا كان عليه من بشاشة ومرح، فقد كان منطويًا وشاحبًا على غير عادته، فسألته عن أحواله، فأخبرها بالذي حدث عنده من  تنمر وتهكم، استاءت الأم كثيرًا؛ لأنها كانت ترى في محمد شيًئا عظيمًا غير ذلك الطفل المعاق الذي يراه الجميع، كانت تراه مستقبلًا حيًا يتشكل أمامها ومكانة عظيمة سوف يستحقها ذات يوم، وهنا كان القرار الحاسم الذي اتخذته والدة محمد، حيث أمسكت بيديه وحدقت بعينيه وقالت له الآتي: "سوف ننتقل جميعًا للعيش في خصب، نحن جميعا سوف نكون يدًا واحدة وسوف ندعم بعضنا بعضا مهما حدث ولن نتركك وحيدًا بعد الآن".

ومع انتهاء العام الدراسي، نقلت أم محمد جميع أبنائها من مدرسة كمزار إلى خصب دون علم الأب، وبحلول الصيف حزمت الأمتعة كعادتهم للذهاب إلى خصب ولكنها هذه المرة حزمتها بنية عدم العودة مجددًا، قضت العائلة الصيف بمنزلهم الصغير في خصب وعندما جاء وقت العودة واجهت الأب بكل صدق وإيمان وإصرار "إننا لن نعود إلى كمزار، وإننا يجب أن نبقى هنا من أجل محمد فهو يستحق أن يتعلم ويستحق أن يذهب إلى المدرسة ويستحق أن يحلم"، لكن الأب عاند وأصر على رأيه واختار كمزار بديلا لعائلته ثم رحل!

ظلت أم محمد الأم والأب والسكن والأمان والقلب لأسرتها، ظلت تنير لهم شموع العلم وتحتضنهم في عواصف الآلام وتؤمن لهم الحب والسلام.

كبر محمد والتحق بأكبر صرح تعليمي في البلاد فكان الشخصية المثالية في جامعة السلطان قابوس، كان رمزًا للعطاء ورئيسًا للأنشطة التطوعية المختلفة، كان يمشي بكرسيه المتحرك فيقف الجميع حبًا واحترامًا وتقديرًا وانجذابًا لحضوره وتألقه.

خلف كل رجل عظيم امرأة عظيمة.. أجل إنِّها سيدة كمزار العظيمة التي آمنت بقدرات ابنها وعززت فيه قيم العلم والعطاء، فكانت هذه السيدة رمزًا لنساء عُمان الملهمات، اللاتي لا ينتظرن أن تُفرش لهن السجادة الحمراء أو أن تُطرق لهن أجراس الفرص، ولكنهن هززن النخيل فتساقطت أغصانها، فصنعن من سعفها بديلا للسجاد وخلقن من مصاعب الحياة أملًا وقوة ونجاحًا وإحسانًا.

تعليق عبر الفيس بوك