أبوظبي تغمرنا بحبها

 

سليمان المجيني

tafaseel@gmail.com

كنتُ أتساءل: هل يُمكن كتابة مقال اجتماعي في ظرف سياسي؟ هكذا بدأتُ أفكر في زيارة صاحب السُّمو الشيخ العزيز محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة لسلطنة عُمان، وهكذا كانت حصيلتي من فرع ذكراي القديمة؛ حيث كنت طفلًا لا أعلم شيئًا عن المدن، ولماذا يسافرون إليها؟ وكيف يكتسبون أرزاقهم؟ ومتى يتعبون؟ ومن أين لهم بكل حاجاتهم؟ وكيف يشترون أو يبيعون؟

لا أنكر أنَّ فضل أبوظبي على أسرتي كبير، فهي وإن كانت بعيدة إلا أنها الحضن الدافئ الذي احتضن مطالب الأسرة بعيش كريم، كما احتضن أحلام والدي بعد غربته في دول الخليج الأخرى، حيث عمل بها لأكثر من عشرين عامًا.

تعرَّض خلال هذه الرحلة الطويلة إلى الكثير من المواقف المفرحة والمحزنة الشائقة والمنفرة، المحيّرة والحازمة في آن معًا، قسّم وقته بين قريته وأبوظبي، لكن أبوظبي تفوز دائمًا؛ فمعظم وقته كان لها عملًا يجبر فيه حاجة أسرته الضعيفة.

يوم واحد في الأسبوع وربما في الأسبوعين إضافة إلى إجازاته السنوية كانت رصيد الأطفال لرؤيته والتفضل بمجالسته ومؤانسته؛ فالمسافة بعيدة تقدر بأربع ساعات وأكثر بالسيارة، وأبوظبي تنحت حبها في قلوبنا وتتشاقى الأنفس طمعًا لرؤيتها والسير في طرقاتها التي تختلف تماماً عن طرق القرية، تبهرنا أبوظبي بأفنيتها وبمبانيها الشاهقة، بمثالب أهلها وساكنيها.

أبوظبي كُنه الزمان الغابر على أهلنا، وهي مسرى أحلامهم وأمانيهم التي سجرت أفئدتنا بحكاياتها وتضخمت بها شوقا وطمعا، فلم يكن حديث القادمين من هناك عاديا؛ فهي تنافس المدن التي كانوا يعملون بها سابقا، وتغمر دنياهم بثغور قلوبهم لتملأها حبًا وهيامًا.

لم يكن والدي يجيد قيادة السيارة لكن أبوظبي أسرته بدفئها كما أسرت كثيرين كانوا هم العون- بعد الله- في مساعدته لتكملة مشواره، استطاع وقتها كسب قلوب العاملين هناك، فاختاره وكيل الوزارة التي يعمل بها ليكون مواطنًا إماراتيًا، وربما اشتكى والدي المشوار الطويل وقلة حيلته لتعلم قيادة وشراء السيارة الخاصة. هكذا هي أبوظبي تكافئ المجيدين، هي شهادة عز لوالدي؛ فهو مطلوب ليكمل مسيرة بلاد الشيخ زايد (كما كنَّا نطلق عليها)، ولا غرابة فهو كما "قابوس عُمان" وحّد بلدًا وأفنى عمره لتنميته وتطويره.

برقت هذه المدينة في عيون الأطفال وأرادوا الذهاب لها فكان لهم ذلك فُرادى ومن ثم جماعات وهي كعادتها احتضنت الجميع، فالشيخ زايد أولى عنايته الشعب العُماني أيما عناية وأكرمه أيما كرم، وقد أعطى العُماني وأفنى نفسه للخدمة حسب مجاله الذي يتقنه.

تعب والدي وأصبح المشوار ثقيلاً عليه، فهو لم يشأ تلبية دعوة التجنس لأسباب هو يعلمها- رحمه المولى- فكان له أن استقال بعد توفيق الله بالتحاق ابنه الأكبر بعمل حكومي ليُساعد الأسرة وإخوته على المعيشة.

وهكذا عاش ما تبقى له من العمر في القرية وهو يُردد ذكرياته المفعمة بالتضحيات في أبوظبي، أحبها كما أحب عائلته تمامًا، بل هام بها حبًا؛ فلا يكاد يذكرها أحد في مجرى الحديث عن تطور المدن إلا ذكرها وأسرف في ذكرها بلسان محب.

أبوظبي اليوم تزور بلادي الغالية عُمان وهي، وإن كانت زيارة سياسية لكنها تعبر عن عمق التقارب وصدق المحبة، وعن ذكرياتنا وعن أحلام والدنا وحبه وهيامه بها، كان يرغب في زيارتها بعد أكثر من خمسة عشر عاماً من الغياب (حينها) لكن الأجل وافاه قبل أن نُحقق له ذلك.

أبوظبي تغمر سماء عُمان بحب كبير وتنسج علاقاتها نسجًا متينًا؛ فكلا البلدين يمتطيان حصان الحداثة والعزة بنفس السرج، وبنَفَسٍ متفانٍ حبًا وعزًا وأمانًا.

تعليق عبر الفيس بوك