ندوة وهران وملتقى الجزائر

سالم بن محمد العبري

ربما كانت دعوة الجزائر للقاء وحوار يديره وتتحدث به قوى الشعوب غير الرسمية والتي قد يكون بعضها غائبا أو مغيبا، فرصة فريدة من لا تتكرر كثيرًا، وقد تشرفتُ بالمشاركة في هذا الحوار، وهو منتدى تواصل الأجيال لدعم العمل العربي المشترك.

تلك المبادرة التي تحسب للجزائر وتضيف رصيدًا لرصيدها المميز في العالم العربي وقضاياه النضالية العادلة، والتي أعطت العمل العربي والدبلوماسي دفعًا لم تعرفه من قبل، وقد اكتفي بالإشارة إلى الوقفة الجزائرية الكبيرة بعد نكسة (1967) وطواف الرئيس بومدين على الأقطار العربية والدول الفاعلة بالعالم، فموسكو كانت لشحذ وترصين موقفها وإرسال الأسلحة اللازمة للصمود، الذي أسس بعد الموقف العظيم للرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي رفض الاستسلام للهزيمة ولمفاعيلها، فكان "مؤتمر الخرطوم" الذي كان علامة ودليلاً على أنَّ الأمة بتاريخها النضالي والزعامات التي تنبثق من رحم الشعوب تسطيع الصمود والتهيؤ لرد العدوان والتحرير، لذلك كان قول عبدالناصر: "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة"، فجاءت قرارات الخرطوم موازية لزعامات عبد الناصر وهواري بومدين  وفيصل بن عبدالعزيز عندما رفعت اللاءات الثلاثة: "لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو".

ولذلك عملت الأمة وقياداتها وضباط جيوشها للاستعداد لمعركة التحرير لما أخذ بالقوة، تلك الجهود والإصرارات والتكاتف وضحت في حرب أكتوبر 1973، والتي أعطت  للدبلوماسية الجزائرية قوة ودفعًا عُبر عنها باتخاذ قرار تاريخي بوقف تصدير البترول للدول المساندة للعدو الصهيوني، هذا القرار الصادم للغرب والذي على إثره كانت انطلاقة ارتفاع أسعار البترول وتحريرها لتتوافق مع عوامل السوق طلبًا أو تراجعًا للطلب، لذلك فإنَّ هذا القرار الهام والخطير ربما دفعت أثمانه أرواح عدد من القادة، ومن ثم قطعت أفريقيا علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني وباختيار عبد العزيز بوتفليقة رئيسًا للجمعية العامة للأمم المتحدة، وتلك القرارات التي أحدثت عملا نوعيا للعمل العربي المشترك، فكان قرار اعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية، لكن هذا القرار التاريخي ألغي بالتسعينيات من القرن الماضي، حين تفرقت السبل بالأمة وزعاماتها وحركتها، وحين أصبحت تعتبر عدوها الحقيقي صديقًا، وركض بعض العرب يقدمون أسباب الحياة والاستمرار والانفراد بأقطارها واحدًا  تلو الآخر.

وإذا نسينا نحن قوى الشعوب المهمشة فلن ينس الباحثون والكتاب والدارسون مطبخ الدراسات والبحوث المميزة، التي أخرجتها الخارجية الجزائرية والجامعات ومراكز البحوث الجزائرية في تلك الحقبة، والتي تؤسس لطريق اقتصادي ثالث أكثر عدلا وانحيازا للأفراد والشعوب ويخفف من شدة إفقار الشعوب لصالح طبقة صغيرة من الأفراد الذين يمثلون الشركات العابرة للأقطار والقارات، والتي استشرت فوضعت يدها على كل مقدرات الشعوب وإنجازات حكوماتها التي هي مكاسب للشعوب، وأطلت الديون لتثقل كاهل الموازنات وتقيد حرية الدول في اتخاذ سلوكيات أفضل وأتقى وأرحم، وتراكمت تلك الديون واستوثق أفراد الرأسمالية الثقيلة فقبضوا بمفاصل الدول وخنقوا عنقها الاقتصادي فملكوا دون أن يملكوا أو أختارهم أحد حتى من الحكام أنفسهم، بل بسياسات عالمية متكاملة ومحكمة وبآلات سرطانية.

وإذا نظرنا إلى خارج الإطار العربي، فإن الجزائر بعد عبدالناصر وبمواصفات الجزائر التي أشرنا إليها سابقا أعلاه هي الوريث الشرعي والأصلي لحركة عدم الانحياز؛ إذ إن مصر الساداتية ولت وجهها لشاه إيران ولأمثاله من نظم الحكم، فكأنه يهوى أن يكون رمسيس الثاني ويُقام له تمثال أضخم من التمثال الذي يقابل القادم للقاهرة في وسط ميدان رمسيس عند محطة قطارات مصر.

كان طبيعيًا أن تحل الجزائر مركزا لحركة عدم الانحياز وقد توالى غياب أعمدتها (نهرو وعبد الناصر وسكتورو وتيتو) وحلت بالأمم المتحدة توجه قراراتها وبياناتها معتمدة على الشخصيات البارزة المميزة في ظل رئاسة بومدين وخارجية بوتفليقة، فأصبحت الجزائر العاصمة نيويورك الثانية في النشاط الأممي والدبلوماسي وبدت نصير الشعوب ومجلى الحقوق ومورد المُحررين والمجاهدين، ولن تنسى فيتنام الجزائر ومواقفها الداعمة والقائدة لمناهضة الحرب الأمريكية على فيتنام فما كان إلا إذعان أمريكا للبطولات الفيتنامية وضغط الرأي العام العالمي الذى تقوده حركة التحرير في مصر والجزائر، حتى  فرت القوى الاستعمارية الأمريكية من (سايجن) كما هرب الإسرائيليون من جنوب لبنان في (مايو 2000) تاركين عملاءهم لمصيرهم المحتوم ثم تكرر المشهد ذاته قريبًا حين انسحبت أمريكا من أفغانستان أخيرًا.

ها هو موقع الجزائر الذي يرصده الاستعمار قديمه وحديثه لها فكانت العشرية السوداء التي بدأت بسوريا مطلع الثمانيات، لكن العالم لم يسلم القيادة للغرب وغطرسته وتطلعاته الاستعمارية التي تؤكدها تماهياته مع الكيان الصهيوني واستماتته للعمل على تمكين الكيان بالحروب على الأمة العربية والإسلامية بل وأحرار العالم كله، فما أن تمكنت القيادة السورية من إحباط الحلقة الأولى من التآمر في حماة والتي أسماها بعض السوريين المنتفعين والمُغرّبين بـ"مجزرة حماة" وأتوا بمجلد يضاهي مجلدا لتفسير القرآن الكريم وقدموه لي بالقاهرة في الثمانيات إلا حذفته كما تحذف المخلفات. وقد أتت الهجمة الغربية على الاتحاد السوفيتي بسلوكيات (جربوتشوف) العربية وهرم مؤسساته حتى (صفا لك الجو فبيض واصفري // ونقري ما شئت أن تنقري)، كهذا صار الغرب يلعب بالعالم ويصفي حساباته مع القلاع التي لم ترضخ، فبعضها أبناؤها تولوا الدور كما فعل السادات وجرباتشوف وبعضها بحروب الناتو كما صار في يوغسلافيا وبعضها بالحروب بالعشريات السود بالجزائر في التسعينات حتى صارت بشاعتها أن يذبح صحفي عادي بعد أن أخذوه من بيته وبعد سويعات وجد مذبوحًا.

وإذ الجزائر بخبراتها وإمكانياتها ومبادئها ورجالاتها أفشلت المخطط الكبير المراد أن يقضي على وحدات الأمة الأخرى تلو الأولى، ولملمت الجراح وضمدته وعملت على المصالحة الوطنية بقيادة الرئيس بو تفليقة، فإن الصهيونية لم تنم ولم تنكسر وتمدها سبعة أبحر الاستعمار والرأسمالية فجاء الربيع العربي فظنناه سحب غيث بعد قحط امتد لسبع سنوات كما أشار القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام، بل سحب سوداء لحرائق النيتو مباشرة كما في ليبيا أو بالنيتو مواربًا كما في سوريا وبنفس الأيدي الليمة كما في الجزائر، فصار الإسلام جزارا وصارت العمائم البيضاء سودا وإن ادعوا أنهم لا يشاطرون أئمة آل البيت في العمائم المتوشحة بالسواد وصار بعض آل البيت يبيضون وجوههم وعمائمهم بعد المؤامرة على سوريا.

وقد تعلم السوريون من تجربة الجزائر وتبينوا مسبقًا المخطط مبكرا فقاموا بتدريس حلقاته وكيفية التصدي  له بالمعاهد العسكرية العليا، ما أمكنهم من التصدي لحلقاته وفصوله وتركوه يكشف عن نفسه وحلقاته ومراحله كما وكيفا، وتعرت الوجوه الغادرة فبدأ التصدي بالإمكانيات المتاحة المستعدة فلما كشف عن نفسه التدخل الخارجي النيوتو وإسرائيل وأدواتهما من السوريين والدواعش حان صد الهجمة الدولية بقوى مماثلة كروسيا وإيران.

وكان محور المقاومة حاضرا بفصائل المقاومة الفلسطينية المتواجدة بالأراضي السورية والقوى الشعبية السورية وإسناد حزب الله. هنا صُد العدوان بوسائل وقوى متعددة وانكسر العدو عسكريا وأخذ يجمع أدواته في محاور بالصحراء أو في الإقليم لعل العودة والعزيمة لرفقاء المعركة، ورفقاء المعركة للعدو لا يكادون ينحدرون حتى تماليهم  إسرايئل بالعودة وتشمر القوى الرجعية سواعدها، وتطل أمريكا وأدواتها بحرب اقتصادية خانقة تأثر فيها لهزيمتها وتجند فيها قوى البنوك ووسائل التعاملات المالية التي ملكتها في حين غفلة العالم واستسلم العالم العربي لهذه الأدوات ولمليارات الديون، ووزراء خارجية العرب في جامعتهم المعتوهة بهم رفعوا سلاح المقاطعة العربية للعدو الصهيوني ولو لم يفرطوا في ذلك وفي أسلحتهم الاستراتيجية، ولم يدخل عملاء وكالة المخابرات الأمريكية قصور بغداد بصفة مُفتشين لما أمكن  لقيصر (القانون الأمريكي) أن يخنق سوريا والعرب تتفرج وتضحك من خيبتها.

تعليق عبر الفيس بوك