كيف تعامل أنور الجندي مع الأدب الوافد؟

 

عبد الله العليان

عندما انفتح العام العربي على الفكر الغربي، قسرًا، وليس اختيارًا، فقد جاء بقوة السلاح والإرغام والفرض، لكنه أيضًا جاء بالفكر والأدب والنقد، وفق الثقافة الغربية، والهدف هو التغريب والاستتباع لنموذجه وفكره إن استطاع، ومن ثمَّ الإلحاق بهذا الغرب الاستعماري البغيض، ومن هذا الجانب الفكري اهتم الاستعمار بتغريب الأدب العربي، ومحاولة قولبته ومن ثمَّ محوه، مقارنة بالأدب الغربي وأسلوبه وطريقته.

لكن الأستاذ أنور الجندي يرى، أنَّ فصل الأدب العربي عن الفكر الإسلامي أخطر التحديات التي فتحت الباب واسعًا أمام الأدب الغربي لأن يتدخل في كل قضايا المجتمعات العربية الفكرية، ويفسد مفاهيم وقيم الإسلام الحقيقية، وقد قام بهذا الدور العديد من المستشرقين، أو الأكاديميين الغربيين الذين كانوا يُدرسّون في بعض الجامعات العربية، وخاصة في مصر بحكم موقعها المهم في الوطن العربي، في النصف الأول من القرن الماضي. وكانت حياة الأستاذ الجندي، حياة هادئة بطبيعته الخاصة في فترة شبابه- كما قال هو في بعض كتاباته بخط يديه وتوقيعه- فيقول في هذا المخطوط كانت حياتي: "هادئة ناعمة لولا أن واجهها التحدي فحولها إلى حياة ذات أغوار".

أمران أساسيان هما اللذان شكلا هذه الحياة وأدخلا إليها الالتزام والخطر والعمل على تجاوز الأحداث؛ أولًا: ذلك الكتاب الذي أصدره خمسة من المستشرقين حول الإسلام والذي قضَّ فيه رائدهم "هاملتون جب" تلك القضية الخطيرة، قضية ذلك العمل الذي مضى سنوات حتى وصل إلى المرحلة التي يمكن أن تعلن فيه الخطة التي قام بها الاستشراق من أجل "احتواء الإسلام". ثانيًا: حشد الاستشراق لها خمسة من كبار رجاله، لدراسة ما أطلق عليه "وجهة الإسلام"، منذ ذلك اليوم لعام 1940 تقريبًا. وقد أخذت أبحث عن هذه المخططات التي يقوم بها الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي والتغريب والدخول في قضية كبرى هي "تصحيح المفاهيم"، وأمضيت عشر سنوات كاملة بين أضابير دار الكتب ودورياتها، فقد كان ضروريًّا أن أعرف جذور العملية ممثلة في الصحافة التي كانت تُعايش ذلك العصر منذ الاحتلال البريطاني 1882. وكان أخطر التحديات في هذا المجال هو تصحيح المفاهيم والكشف عن الشبهات التي قد وضعت بخداع ومكر، والتعرف على هذه المخططات ـ كما يقول الأستاذ الجندي- كان ضمن هدفهم القضاء على اللغة العربية، وتشجيع اللهجات العامية، لكن الأساس الذي تركزت عليه الخطط من المستشرقين وغيرهم ومنها أهم هذه الأهداف إنهاء الفصحى، ثم يأتي تعميم العامية في البلاد العربية". ولا شك أن هذا الهدف كان تحطيم اللغة الفصحى كأساس لقواعد اللغة وضوابطها، وهو هدف قديم وشارك فيه عدد من دعاة إحياء العامية من أمثال: سعيد عقل، وسلامة موسى و"ويلكوكس" لكن هذه المحاولات المُستميتة في مخططها، فشلت في النجاح؛ سواء في مصر أو الشام على الوجه الأخص، وهما اللذين تمركز فيهما هذا المخطط وغيره من الأساليب التغريبية.

ويقول الأستاذ أنور الجندي في كتابه "الفصحى لغة القرآن" إن جهود كل المحاولات التي استهدفت إحياء العامية في البلاد العربية: "قد باءت بالفشل: عجزت العامية أن تستوعب العقل العربي والنفس الإنسانية، وأكدت أنها لا تستطيع أن تصل إلى أعماق القلوب، أو ترضي الأذواق العالية أو تُعالج الموضوعات الدقيقة، كذلك من ناحية أخرى عجزت المحاولات التي وجهت إلى الفصحى باتهامها بالجمود أو الصعوبة أو عدم القدرة على استيعاب المصطلحات العلمية. وقد عمدت حركة العامية إلى خلق جو عام وذلك بنشر عديد من كتب الأزجال والمواويل والقصص العامية والأحدوثات، والأغاني الشعبية، ولكن ذلك كله كان كالهشيم لم يلبث أن انطوى". وقد تعرض الأدب العربي لهجمات كبيرة من الاستعمار وجنوده المتغّربين من أبناء جلدتنا، تحت لافتة تجديد الشعر، والأدب العربي عمومًا، وهذه جاءت من تلك النظرة التي يريدها الغرب ويتمناها، حتى عناوين كتب الشعر يرفضها دعاة التجديد، أو أي إشارة يفوح منها اسم الشعر العربي، ويعلق د. زكي نجيب محمود في كتابه "مع الشعراء" أن البعض من هؤلاء يحرصون على: "ألا يطلقوا على مؤلفاتهم الشعرية اسم الدواوين خشية أن تفوح من هذه التسمية رائحة القديم، فلئن كان فيما مضى يُقال: ديوان المتنبي وديوان البارودي وديوان شوقي وهكذا، فهم اليوم يقولون- مثلًا- الناس في بلادي، مدينة بلا قلب، أنشودة المطر، البئر المهجور إلخ". ومن هذه المنطلقات التي شدد عليها الأستاذ أنور الجندي في كتابه "خصائص الأدب العربي"، وعنون في الفصل الرابع من الكتاب بقوله: "لماذا انحرف الأدب العربي؟" في الكثير من مضامينه الحديثة التي تم إدخالها وهي دخيلة عليه. ويقول الجندي: "من الحق أن يقال إنَّ الأدب العربي انحرف عن منهجه الأصيل وعن ذاتيته حين واجه هنا الغزو الفارسي، وأن المعركة قد استمرت طويلًا بين الأصيل والدخيل. وفي هذه الفترة- ويقصد فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي- غلبت مظاهر الانحراف وتركت بصماتها في آثار طائفة من الكتاب والشعراء... والشعر القائم على إيقاظ ضمائر الناس على الحق والخير والعدل، وفي نفس الوقت احتاط الفكر الإسلامي في النظر إلى الأدب على أنه أعمق مُعّبر عن النفس، فقد كان الأدب في الأزمات الكبرى ينطوي ويعجز عن أداء هذه الرسالة بينما يتقدم الفكر نفسه لملء الفراغ، وقد بدا ذلك جليًا في أزمات الشعوبية والغزو الصليبي وحملات التتار وفي الغزو الاستعماري الحديث".

وإذا مررنا على الأدب المهجري العربي، وتأثره بالأدب الغربي الحديث، نجده دعا إلى تجاوز عمود الشعر والقافية، لكن هناك توازن في مضامين الشعر المهجري بين المدارس المختلقة بالمهجر، ويرى الأستاذ أنور الجندي في كتابه "أضواء على الأدب العربي المعاصر" أن: "أثر المدرسة المهجرية الشمالية كان أشد قوة من أثر المدرسة الجنوبية "العصبة الأندلسية" التي كان اتجاهها إلى الشعر في الأغلب. وتتسم مدرسة المهجر الشمالي بالتحرر من القديم وتغليب المعاني الإنسانية العامة على المعاني القومية مع الجرأة في مفاهيم الدين واللغة والتحرر من قيودها. أما المدرسة الجنوبية فهي أقرب إلى الإيمان بالعروبة والقيم العربية، وغلبة المحافظة على الديباجة العربية والجزالة اللفظية. وهما يشتركان في الحنين إلى الشرق وتصوير تجربة الهجرة والدعوة إلى الحرية السياسية".

أما القصة كما يراها الأستاذ الجندي، كما أخذت من الغرب، يرى كثير من الكتّاب، كما نقل ذلك الكاتب نصر حامد أبو زيد: "أن هدف القصة في الغرب هو إعطاء الشعوب (جرعة) من الخيال.. للتعويض عن الواقع.. فحيث يعيش النَّاس في المناطق الباردة.. بين الغيوم والظلام والآلام، وبين الجبال الشاهقة، والشمس الغائمة يحتاج الناس إلى (مخدر!) وإلى (غيبوبة) وأن القصة الخرافية الوثنية المستمدة من الأسطورة.. كما حمل الأستاذ الجندي على الأدب الحديث، أو الحداثة المستوردة من الغرب يدعون أنهم قد :"حطموا هذا القيد وتجاوزوه، وأن هذه المحاولة هي التي مكنتهم من الإبداع. وهم يدّعون أن الحداثة هي الثورة الدافعة لتجاوز التأخر والجمود والارتقاء إلى منطلق العصر... واتخذوا من شعار الحداثة ستارًا ينفثون من تحته سمومهم، ويظهر ذلك واضحًا في كتاب غالي شكري "شعرنا الحديث إلى أين؟"، وأن الحداثة العربية هي ثورة متمردة على كل نظام وقاعدة وقانون، لأنها ترمي إلى هدم الضوابط والحدود"..

وللحديث بقية..