الفكر بين الكرك والمرق

إسحاق بن أحمد البلوشي

Isehaq26927m@gmail.com

بين شايٍ وكرك وقهوةٍ ومرق يموت الفكر، مات بالأمس الفيل وما زالت حادثته تجوب الآفاق والأراضين الطباق شامخةً شموخ الجبال، وماتت أيضًا بالأمس جدلية عذاب القبر، وما زال آل فرعون في معرض النَّار غدوًا وعشيًا ويوم القيامة سيدخلون أشد العذاب، ومات كذلك الصراع حول نزع حجاب المرأة ولا زال حجاب الطاهرات العفيفات يرفرف فوق رؤوس أعدائه.

استهلك هذا الإنتاج طوال السنتين الماضيتين فانتهت صلاحيته، فجاء الجديد بما يتوافق مع الكرك والمرق، ولا أرى جودته تستحق التفاوض والاقتناء ولا التداول والاقتفاء؛ لأنه يضرب بعضه بعضًا وينسف جزؤه كلَه، فقد قالوا وسقطوا سقطاتٍ من حيث لا يدرون ولا يشعرون. جاءوا بالكرك وقالوا إنَّ التعددية مذهبهم وحرية الاعتقاد طريقتهم، ثم جاءوا بالمرق وقالوا لا شأن لنا بما يعتقده الإنسان وما يأكل وما يشرب وما يلبس، ثم أقاموا بعد ذلك على أنفسهم الحجة وأنكروا على المتدينين تدينهم والتزامهم، وأنكروا على المرأة حجابها وسترها، وعلى العلماء علمهم ومكانتهم، ولم يقبلوا منهم اعتقاداتهم، وأنكروا عليهم هيئتهم ولباسهم، ولم يبقَ إلا أن يحددوا لهم ما يأكلون وما يشربون.

ثمَّ لم يلبثوا طويلًا وقالوا إنَّ الأفكار يجب تداولها في الأسواق، شأنها كشأن أسواق البورصة والسندات، لكن هذه لها ملاكها والأفكار ليست ملكًا لأحد، ثم جاءوا بالأفكار العظيمة، كذلك الفيل وما تعاطفوا فيه مع آل فرعون ومسائل الحجاب، وسعوا لإحياء الجدليات الميتة والغيبيات، ثم هدموا ما قالوا وأغلقوا المساحات، ولم يقبلوا من أحدٍ تداولها ولا نقدها، خاصة من المتدينين أصحاب اللحى. وأردفوا ذلك قولًا هدم أوله آخره، وناقض آخره أوله وقالوا إن العنف في الألفاظ لا يأتي إلا من صاحب اللحية! أما الذين يحلقونها فهم من ذلك براء، وقد أصاب العنف ما أصاب من أفكارهم التي لا يجوز العنف معها؛ لأنها بريئة براءة الأطفال، وفي المُقابل قابلوا العنف بعنف أشد منه قوةً وبطشًا، واتهموا من قصر ثوبه وأطلق لحيته امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واقتداءً بسنته، اتهموه ضمنًا بأنَّه ضال يُريد دينا خاصًا يتناسب مع مقاس ثوبه وطول لحيته، ونسبوا العنف وبذاءة الأخلاق والألفاظ إلى المتدينين كما يصفونهم من خلق الله وعباده  ولم يستثنوا منهم أحدًا، هل يشتم من هذا رائحة التعددية وحرية الاعتقاد؟ أم إنها رائحة الكرك الكريهة التي أزكمت الفيل وآذت الحجاب وآل فرعون في قبورهم من قبل، وأزكمت أنوف المتدينين وآذت الدين وحرية الاعتقاد من بعد؟

عندما ينادي الكرك بالتعددية أعلم أن الطعم والمذاق لا يستقيم ولن يستقيم أبدًا، وكذلك شأن المرق إذا نادى بحرية الاعتقاد اعلم أنَّ الطعم والمذاق لا يستساغ ولن يستاغ أبدًا؛ لأن أصحاب الكرك والمرق يريدون تعددية  بمقاساتهم لا بمقاسات أصحاب اللحى ويريدون حرية في الاعتقاد بعيدة كل البعد عن حرية الاعتقاد.

 من أين جئتم بهذه الألقاب والأوصاف؟ ولماذا تعديتم على اللحى والثياب القصيرة وألصقتم بها وصف الدين والتدين؟ لماذا تجاوزت أيها الكرك حدك وعلوت قدرك وألصقت بالدين ما ليس منه؟ لماذا تسمي الأشياء بغير مُسمياتها؟ لماذا يسمى صاحب اللحية بالمُتدين ولماذا يسمى صاحب الثوب القصير بالمتدين؟ ما علاقة الدين بهيئة الإنسان وشكله وطول لحيته وقصر ثوبه؟ ألم تجد يومًا صاحب لحية سكران، ألم يوجد على هذه الأرض صاحب ثوب قصير زانٍ مُشركٍ، وكذلك العكس ألا يوجد صاحب لحية وثوب قصير أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره؟ لماذا تنسب الأخلاق السيئة وبذاءة الألفاظ إلى الدين ضمنًا؟

ألم يسمع جلساؤك يومًا بآيات القرآن التي تصف التزام الإنسان بأوامر الله ونواهيه وما جاء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في وصف ذلك الإنسان، قال تعالى "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا..."، وقال تعالى "فلذلك فادع واستقم..."، وقال تعالى "فاستقم كما أمرت". هل تعد استقامة الإنسان والتزامه بأوامر الشرع عيبًا بمنظور الكرك، أم أن أصحاب الكرك لا يعرفون من الدين إلا اللحية والثوب القصير؟

هل يعلم أهل الكرك والمرق أن بوصفهم الآخر بالتدين قد اتهموا أنفسهم ضمنًا بأنهم قد انسلخوا من دينهم، عليك أيها الكرك أن تجتهد قليلًا وتبحث عن معنى التدين، ومن هو المتدين؟ لأنَّ المقالة ترفض أن تفسر ذلك تقديرًا لعقول القراء وأفهامهم، وخوفًا أن يكون ذلك حجة عليك ويعاد أصحابك وجلساؤك إلى مقاعد الابتدائية ومحو الأمية من جديد.

لا يوجد شيءٌ أشد قسوةً على الإنسانية من أن يتهم ذلك الإنسان بما ليس فيه ويستهزأ به ويستحقر وأن توصف الأشياء بغير أوصافها وأن يغطى العفن والنتن بشيء من العسل والسكر، اتهموا الدين بما ليس فيه واختصروه في طول اللحية وشكلها وفي طول الثوب وقصره، واتهموا تلك الهيئة من البشر بأنها تمثل الدين وأنهم يتكلمون نيابة عن الله وكأنهم اطلعوا على سرائرهم وعلموا بما تخفي صدورهم والعياذ بالله، هل علم  أصحابك أيُّها الكرك أنهم عندما بدأوا حديثهم قالوا "بسم الله" فهل يعني ذلك أنَّهم يتكلمون نيابة عن الله، إن استطعت الإجابة ربما يكون في ذلك إنصاف لأصحاب اللحى وإن لم تستطع فلك أن تسأل المرق لعله يجيب.

هل يعلم جلساؤك شيئًا عن علاقة الدين بالإنسان وهل تعلم أنت أيها الكرك شيئًا عن علاقة التدين بهذه النفس البشرية، لا أشك أبدًا في علمهم بذلك؛ لأنه من يستطيع أن يشرب مئات أكواب من الكرك في ساعة لا شك أن له من القدرات العقلية والعلمية التي تمكنه من فهم مثل هذه القضايا الفكرية العميقة، ولأنَّ الكرك أصبح ملازما للفكر في هذه الأيام.

ولا شك أن شربهم الكثير من أكواب الكرك يمكنهم أيضًا من البحث في أقوال بعض من فلاسفة الغرب الذين لا يقولون إلا صدقًا، ولا يتفوهون إلا بالحكمة والمنطق، الذين ارتمى جلساؤك في أحضانهم لأنهم بمذاقات الكرك وليسوا من أصحاب اللحى فقد قال صغيرهم "حيثما يوجد الناس يسكن الدين" وقد قال كبيرهم أيضًا "أن تصبح إنسانًا يعني أن تكون متدينًا"، فهل يستقيم شيء من طعم المذاق بعد هذا أيها الكرك؟ وهل تستطيع أن تحاجج بعضا من جلسائك وأصحابك بشيء من الإنصاف والحكمة؟ ولو كان بلسان أصحاب اللحى وذلك الفيل الحزين، أم أنك تلقي الأسئلة عليهم وتولي هاربًا تاركًا الحبل على الغارب؟

وفي الأخير.. على الكرك أن يتحول قليلًا من ساحات الفيلة والقردة وحجاب المرأة واستحقار ونبز الآخر والتعدي على المعتقدات، إلى مواضيع أخرى أكثر فائدة للإنسانية لعله بذلك يبارح مكانه ولعل جلساءه ينتقلون من دائرة أوهام الصغار إلى دائرة أحلام الكبار، ولو تطلب الأمر شرب مزيدٍ من أكواب الكرك.

تعليق عبر الفيس بوك