د. يوسف بن حمد البلوشي
التداعيات الناجمة عن ترك فضاء المعلومة والرأي العام دون تواصل استراتيجي ورواية رسمية حصيفة تملأ الفراغ، أمر يجانبه الصواب، ويتيح لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي ملؤه بما تيسر من الغث والسمين، الذي قد لا يخدم أهداف الوطن، ولا يخلق حالة الالتفاف حول الرؤية وبرامجها ومشاريعها.
ونشير هنا إلى أن الشعور بملكية المشروع الوطني الأول المتمثل في رؤية "عمان 2040" يمثل أساس نجاحها؛ حيث حظيت هذه الرؤية الوطنية في مرحلة إعدادها وصياغتها بتواصل ومشاركة مجتمعية واسعة، عندما جابت الرؤية عُمان من أقصاها إلى أقصاها، ونجحت في مشاركة الأفراد والأسر والشركات القضايا الوطنية الكبرى واستشرفت معهم المستقبل وكيفية تعاملها مع مختلف القضايا من خلال توجهاتها الاستراتيجية. إلّا أنه بعد إطلاقها تبين أن الشعور بملكيتها من قبل الأطراف المختلفة، يحتاج لمزيد من العمل الجاد والمتواصل؛ كي يشعر كل مواطن وموظف عام ورجل أعمال أنه معني بتنفيذها للوصول إلى مبتغاها. ويتطلب هذا تطوير خطاب ملائم يصل لفئات المجتمع كافة ليوضح أدوارهم، كلٌ حسب أولوياته ومكانه وطموحاته. وهذا لن يتأتى إلا من خلال التواصل الاستراتيجي الفعّال والبناء والهادف.
والتواصل الاستراتيجي المطلوب لهذا العمل يستلزم الاستمرارية والابتكار ويمتد من الفكرة إلى تحقيق النتائج المرجوة وهي رحلة طويلة مليئة بالإثارة والمتغيرات تصل لعام 2040، ولكن البداية العلمية والعملية والمؤسسية لهذه الرحلة التي قد بدأت من معرفة الواقع ورصدت توقعات العمانيين للمستقبل وسطرت دور الرؤية بمستقبلهم ومستقبل أبنائهم.
نعم، يشهد العالم تغيرات متسارعة وأزمات متكررة، والعمانيون ليسوا وحدهم في مواجهة مثل هذه التحديات؛ الأمر الذي يُحتِّم تبني خطاب واضح وهادف يصل للناس بشكل رصين لضمان تجاوز التحديات وتحويلها إلى فرص، وتعظيم الاستفادة منها؛ من خلال توصيل الرسائل المناسبة للأطراف ذات العلاقة. ولقد أسهم التواصل والخطاب الهادف، في تعزيز إرادة المجتمعات للنهوض، ورغبتها في مواجهة التحديات من أجل صناعة المستقبل الأفضل، وهناك شواهد في مشاريع نهضة كوريا واليابان وماليزيا وسنغافورة والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها.
ينبغي أن يُركِّز التواصل الاستراتيجي على تحقيق الأهداف الآنية والمتوسطة والطويلة المدى للمواطنين والحكومة ومؤسساتها وللشركات، ويستوجب نجاح هذا التواصل وجود فريق عمل للقيادة والتنفيذ يعمل على الرؤية بانسجام، ويُوصل الرسائل في وقتها المناسب ومضمونها الواضح، الذي يقدِّر عقل المواطن والقائمين على قطاع الأعمال وموظفي الحكومة الذين ينفذون الرؤية.
ومن شروط نجاح التواصل الاستراتيجي ضرورة الفهم العميق للنسيج والثقافة المحلية واحترام الأفكار، وتسخير التكنولوجيا، واستخدام سبل ومهارات الاتصال والاستراتيجيات المتقدمة، وتبني المصداقية لضمان الإقناع. وقد أكدنا ونؤكد الحاجة الملحة إلى إنشاء مراكز فكرية وبحثية جيدة تعمل على دراسة الظواهر والقضايا باستقلالية وحيادية من أجل تقديم رسائل تواصل استراتيجية بنّاءة للمجتمع.
ونود أن نشير إلى أنَّ غياب أو ضعف إيصال الرسائل والمعلومات المبنية على الحقائق، قد ساهم في تشتيت الالتفاف حول الرؤية وتوجهاتها وخاصة من قبل المواطنين؛ حيث يتشكل الانطباع لدى المواطن أن الرؤية جاءت فقط لتأطير برامج الإصلاح المالي؛ بما فيها فرض الضرائب بأنواعها! وهذا أمر يجافي الحقيقة، ولم يتم توضيحه؛ الأمر الذي أوصل مواطنينا إلى ترسيخ هذا الانطباع.
المطلوب الآن، توضيح الإنجازات المتحققة، ومنها نتائج برنامج التشغيل الوطني والأعداد المتزايدة للمواطنين الحاصلين على وظائف، ومراجعة أسعار الخدمات المقدمة للمواطنين، وبرامج الحماية الاجتماعية بكافة أشكالها، وتحسين جودة الخدمات المقدمة، ونتائج أعمال الشركات الحكومية وغيرها الكثير.
وعلى صعيد الإصلاحات المالية، فإنَّ ما يعيبها، كان وما زال، غياب استراتيجية تواصل فعَّالة، تبيِّن الأسباب الموجبة لهذه الإصلاحات، والفئات المستهدفة منها، وقنوات إنفاق عائداتها؛ الأمر الذي كان من شأنه أن يحشد التأييد لهذه الإجراءات، كأن يحول جانبًا من المحايدين الى صف الداعمين لهذه الإصلاحات، وتغيير موقف الممانعين الى محايدين على الأقل؛ إذ إنَّ تحقيق أحد التوجهات الاستراتيجية لرؤية الوصول إلى اقتصاد متنوع ومتعدد الموارد، يحتاج لبيئة حاضنة توجههُ بجهود وهمم الجميع، وتخصص الموارد نحو الأهداف المحددة بهدف زيادة الوعي ورسوخ الرسالة، خاصة مع انتشار أنصاف الحقائق وجزء من المعلومة على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يتسبب في تشتيت الانتباه بعيدًا عن المأمول ويُعقِّد مسارات تحقيق الرؤية.
والتحولات المرتبطة بالرؤية كتفعيل دور القطاع الخاص وتحقيق التنويع الاقتصادي- كغيرها من تحولات مستهدفة في الرؤية- تُنتِج رابحين وخاسرين، ويجب أن يكون لكل منهم مكان في مستقبل عُمان. وهذا يتطلب تأسيس فهم علمي عميق لنسيج ومقومات وتركيبة الاقتصاد العماني وخصائص المجتمع العماني بما يضمن إدارة محكمة لتغيير الأنماط والسلوكيات السائدة في المجتمع والتي اعتاد عليها الجميع وكرستها الوفرات النفطية، وأخذهم بالأسباب التي تؤدي رفعة الوطن والمواطن وتحقيق غايات الرؤية التي تتمتع بالمرونة الكافية لتعامل مع التحديات على مختلف الأصعدة.
وبعيدًا عن سرد الإحصائيات البحتة والمزايا النسبية التي تنعم بها السلطنة، وممكنات التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وتوافر الموارد الطبيعية والمعدنية والسمكية والزراعية والسياحية والموقع المتميز، والبنية الأساسية المتطورة، والانفتاح على العالم والتاريخ، والعلاقات الدولية التي تمكننا من فتح أسواق واستجلاب رؤوس أموال وتكنولوجيا، وما تحتاجه عُمان من عناصر مفقودة في معادلة التنمية المحلية... نجد أن تعظيم الاستفادة من تلك الخصائص والسمات ما زال محدودا، ويستوجب الأمر الارتقاء بالخطاب الإعلامي والتواصل الاستراتيجي المبني على فهم خصائص المجتمع مع الأطراف المختلفة؛ فتحريك جينات التجارة والتاريخ والمعرفة وحشد همم العمانيين والمقيمين باتجاه بوصلة "رؤية 2040" لن يحدث تلقائيًا، ويستلزم تواصلًا مستمرًا يضمن التنسيق والانسجام بين الأدوار التي يقوم بها أفراد وأسر المجتمع، وبين الجهد الكبير الذي تقوم به مؤسسات الدولة، وبين الأدوار المهمة لشركات القطاع الخاص وكذلك المتعاملين مع العالم الخارجي.
آخر الكلام.. بقي أن نقول إنَّ فضاء المعلومة والتواصل كالتربة، إما أن نزرع ونُنبت فيها النباتات المفيدة والصالحة للمجتمع، وإما أن نتركها لتكون تربة خصبة للحشائش الضارة والنباتات غير النافعة للمجتمع، ولذلك يجب أن يرتقي موضوع التواصل الاستراتيجي إلى مقدمة سلم أولوياتنا، فلن تتحقق النقلة المرجوة من حيث نحن الآن في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، إلى أين نريد أن نكون ضمن مصاف الدول المتقدمة، دون هذا التواصل الاستراتيجي.