بريطانيا في عهد الملك تشارلز

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

"عاش الملك.. مات الملك"، هذه العبارة التي تُردد مع غياب ملك من ملوك ممالك أوروبا فيما مضى من الزمن، فالبقاء للدولة والفناء للأفراد، وهذا ديدن الحياة.

وفي بريطانيا، أقدم الملكيات في أوروبا والعالم، وليس من اليسير على رعاياها التفريط بها، لهذا يأتي كل عهد وهو يحمل معه هويته الخاصة، هذه الهوية التي تحاكي جسد الدولة وهياكلها ولكنها في المقابل تجدد الروح بحسب شخصية الملك.

الملك تشارلز "الثالث" بحكم المدرسة الزمنية لابُد أن يختلف عن والدته الراحلة الملكة إليزابيث الثانية، وأن يمارس صلاحياته الدستورية العُرفية على أكمل وجه خاصة وهو معروف عنه عرض وجهات نظره (شفاهة وكتابة) على الحكومات المتعاقبة ببلده باستمرار في بعض القضايا المهمة كولي للعهد؛ الأمر الذي عرضه للنقد من بعض وسائل الإعلام المحلية والكتل السياسية والتي اعتبرت تلك الأعمال تدخلًا منه في شؤون الحكومة.

صلاحيات الملك في بريطانيا كثيرة ومفصلية رغم توصيف البعض لبريطانيا بأنها "ملكية دستورية"؛ أي أن الملك يملك ولكنه لا يحكم، هكذا يبدو الوضع نظريًا ولكنه على الصعيد العملي عكس ذلك تمامًا وكأي نظرية حكم، فالملك في بريطانيا رمزٌ دستوري سيادي وليس منصبًا فخريًا أو بروتوكوليًا، فيكفي التذكير بأن رئيس الوزراء ببريطانيا لا يمارس مهامه، إلا بعد جلسة طويلة مع الملك يُعد مضمونها من أسرار الأمن القومي.

كما يمكن التذكير بأن جميع السفراء البريطانيين في الخارج يحملون أوراق اعتمادهم من الملك، وكذلك السفراء الأجانب المعتمدين ببريطانيا والذين تعتمد مهامهم الرسمية بعد تقديم أوراق اعتمادهم للملك شخصيًا.

الملك ببريطانيا يعلن الحرب ويُقر السلام ويحل البرلمان ويُعلن حالة الطوارئ كلما استدعت مصالح البلاد العليا ذلك، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة ويملك حق سحب الجنسية والعفو في بعض الأحكام القضائية.

جميع ما ذُكر وغيره من الأعراف التي لم نعلمها تدلل على أن حضور الملك ببريطانيا طاغٍ وكبير، وأنه يملك في الظاهر ويحكم في الباطن؛ كمؤسسة سياسية متكاملة مع الحكومة وطاقم المستشارين.

شخصيًا أعتقد أن الملك تشارلز الثالث وبعد تتويجه سيُعلن عن نفسه وهوية عهده وسيُضفي على سياسات مملكته بالداخل والخارج الكثير من قناعاته واهتماماته ومكونات شخصيته، ومنها اهتماماته العميقة بالأديان والتاريخ بأنواعه وأطواره ومراحله والبيئة وفنون العمارة والحضارة الإنسانية بعمومها، وما التلميح بتوسعة صفته من راعٍ للكنيسة إلى راعٍ للإيمان أو الأديان، إلّا شيء من هويته الفكرية الشخصية وهوية عهده الملكي، في إشارة واضحة إلى قناعته بأهمية التسامح والتعايش بين الأديان، خاصة وأن من رعاياه من هم ليسوا من أتباع الكنيسة؛ بل يتبعون أديانًا أخرى، وفي إشارة منه كذلك إلى أن ما تجاوزه الزمن يجب أن يطويه الزمن ويصبح جزءًا من التاريخ.

الملك تشارلز في تقديري سيسعى إلى تجديد نظرة البريطانيين إلى العالم وكذلك نظرة العالم إلى البريطانيين، وينزع عن مملكته ثقافة الاستعمار والاستعباد وعزلة سكان الجزر عادة، والذين ينظرون لكل شيء حولهم بالكثير من الشك والريبة ولا يتبسطون في تعاملهم تجاه الآخرين بسهولة.

إن البحث عن مصالح الدول لا يتوافر بالسير على نهج السلف خطوة بخطوة دائمًا؛ بل بالبحث عن الممكنات ومقتضيات الزمان كذلك، فإذا كانت بريطانيا قد اقتنعت بالانسحاب من عدد كبير من مستعمراتها في السابق والتي أصبحت وبالًا عليها، فيمكنها اليوم الإذعان لمقتضيات العصر ولغته بأن الندية ونظرية "رابح رابح" هي الركن الأساس والمنطقي والمحبب للأجيال اليوم ويحفظ للكل مكانته ومقدراته.

قبل اللقاء.. الملك تشارلز لا يختلف مع والدته الملكة الراحلة، ولكنه يختلف عنها، وهذا هو المهم لبعث روح جديدة في المملكة بالداخل والخارج.

وبالشكر تدوم النعم.