"الدقم".. العاصمة الاقتصادية

 

 

سالم البادي (أبو معن)

 

تُحقق سلطنة عُمان نهضة غير مسبوقة في تنمية المناطق الاقتصادية وخاصة في قطاع الموانئ الدولية؛ حيث جاء إنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم بمرسوم سلطاني في أواخر عام 2011، في هذه البقعة من مساحة بلادنا العزيزة، والتي تطل على بحر العرب والمحيط الهندي، تتميز كذلك بشواطئ جميلة تمتد إلى 90 كيلومترًا.

الدقم تقع قبالة أهم طرق التجارة والملاحة العالمية والذي يمر من خلاله ثلث صادرات موارد الطاقة بالعالم، وتتوسط موانىء عالمية كبيرة، وبهذا يتفوق موقعها الجغرافي عن غيره من المواقع الأخرى، فضلاً عن الميزة التي تمتاز بها عُمان باعتبارها بلدًا ينعُم بالأمن والأمان والاستقرار والاطمئنان والسلم العالمي، وسياستها الدولية المعتدلة المحايدة مع جميع جيرانها ودول العالم، إضافة إلى تخصيص مساحة شاسعة لـ"مدينة الدقم" والتي تقدر بـ2000 كم مربع، والتي كلفت حكومة السلطنة أكثر من 1.7 مليار ريال عماني في مشاريع البنية الأساسية، إضافة إلى البنية التحتية الاستثمارية التشريعية والتنفيذية لتسهيل أعمال الاستثمار فيها، كل هذه العوامل وغيرها جعلت من "منطقة الدقم الاقتصادية" مركزًا لوجستيًا عالميًا وميناءً بحريًا دوليًا مميزًا.

وبحسب تقرير لموقع المونيتور (Al-monitor)، فإن السلطنة ستصبح مستقبلًا خيارًا بديلًا في مجال الموانئ والخدمات اللوجستية؛ إذ باستغلال موقعها الجغرافي المتميز، ستكون الدقم الممر البديل عن مضيق هرمز مستقبلًا، فضلًا عن سرعة وسهولة وانخفاض كلفة الشحن، وبذلك تضاف ميزة فريدة للسلطنة من خلال الاستفادة من موانئها في مجال الخدمات اللوجستية وجذب الاستثمار بشتى أنواعه.

وأصبح ميناء الدقم ميناءً عالميًا متعدد الأغراض؛ كونه بات يضم أرصفة تجارية ونفطية وحكومية ومناطق صناعية ولوجستية، علاوة على أنه يشغل مساحة تصل إلى حوالي 170 كيلومترًا مربعًا؛ حيث يضم الرصيف التجاري 4 محطات من بينها محطتان للحاويات بطول نحو 1600 متر لمناولة نحو 3.5 مليون حاوية نمطية سنويا، ومحطة للمواد الجافة السائبة بسعة نحو 5 ملايين طن متري سنويا، ومحطة متعددة الاستخدامات بسعة حوالي 800 ألف طن متري سنويًا.

لقد كان لنجاح ميناء الدقم منذ بدء عمله عام 2012 قيّمة مضافة في مجال المناولة وعمليات الشحن، وقد بدأ العمل الفعلي لخدمات الميناء بعد سنةٍ من افتتاح الحوض الجاف المجاور له، حيث استفاد من خطّ التغذية المتعدد الأغراض الذي يربط "ميناء الدقم" بالموانئ الإقليمية الرئيسية، مما سهّل حركة الحاويات الواردة إلى الميناء والصادرة منه واختصر الزمن لخدمات الشحن. علاوة على ذلك يُقدّم ميناء الدقم مجموعة متنوعة من الخدمات، كمنشآت منع التلوث (ماربول) وإمداد المياه العذبة، وتزويد السفن بالوقود، وعمليات نقل بضائع السفن والبواخر، إضافة إلى خدمات جمع نفايات ومخلفات السفن والبواخر ومعالجتها. كما إن "ميناء الدقم" متصل بشبكات طرق متكاملة بمواصفات ومقاييس عالمية، بتكلفة استثمارية كبيرة، وتربط الميناء بالأسواق الخليجية الأخرى.

وتشرف "شركة عُمان للحوض الجاف" على الحوض الجاف الذي يقدم خدمات إصلاح وصيانة السفن، وتصميم وتصنيع أعمال الصلب لصناعة البتروكيماويات. ويتكون مجمع الحوض الجاف من حوضين جافين بطول 410 أمتار وعرض 95 مترا للحوض الأول و80 مترا للحوض الثاني وبعمق يصل إلى 10 أمتار وارتفاع 14مترا، كما يضم مجمع الحوض الجاف أرصفة بطول 2800 متر وساحات بمساحة 453 ألف متر مربع، مما يجعله من أكبر الأحواض في المنطقة، وبإمكانه استقبال أغلب السفن التجارية العالمية في السوق حاليا ومنها على سبيل المثال ناقلات النفط الخام الضخمة (ULCC) وناقلات النفط الخام العملاقة (VLCC)، ولديه القدرة على استيعاب عدد 200 سفينة سنويًا، وهذه كلها معلومات موثقة على لسان المسؤولين وعبر بيانات صحفية نشرتها وسائل الإعلام المحلية والعالمية، ومتاحة عبر الإنترنت للجميع. وقد استطاع "الحوض الجاف " خلال 10 سنوات أن يحقق أكثر من 1000 مشروع صيانة، بحسب الإحصائيات الرسمية المنشورة.

أما مطار الدقم فيمثل ركيزة أساسية وداعمة لنمو المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، ويمثل البوابة الرئيسية التي تربط الدقم بالعالم، وتقدر الطاقة الاستيعابية لمبنى المسافرين بـ500 ألف مسافر سنويًا، مع إمكانية التوسع مستقبلا إلى مليوني مسافر سنويًا، بينما تبلغ الطاقة الاستيعابية لمبنى الشحن حوالي 25 ألف طن سنويًا مع إمكانية توسعته حسب الطلب والحاجة.

وهنا أكبر ميناء للصيد البحري في السلطنة، على مساحة 600 هكتار وعمق 10 أمتار، ويضم منطقة للصناعات السمكية، ومن المتوقع أن تحتضن حوالي 60 منشأة متخصصة في مجال التصنيع السمكي والتعليب ونحوها من الصناعات السمكية الأخرى.

في حين أنَّ منطقة رأس ستكون مركزًا لتخزين النفط وأكبر محطة لتخزين النفط الخام بمنطقة الشرق الأوسط، ومركزاً حيويا واستراتيجيا للأسواق العالمية للطاقة بسبب مساحتها وسعتها الاستيعابية للتخزين، علاوة على موقعها الاستراتيجي على خطوط الملاحة العالمية مما جعلها تحتل مركزا متقدما بين أبرز محطات تخزين الطاقة بالمنطقة.

ومن بين المشاريع الواعدة في الدقم، مشروع مصفاة الدقم، وهو مشروع مشترك مناصفة بين مجموعة أوكيو العمانية، وشركة البترول الكويتية العالمية، وتبلغ تكلفته 8 مليارات دولار، ويعد الأكبر في مجال المصافي والبتروكيماويات بالسلطنة. ومن المتوقع أن تبلغ طاقة إنتاج مصفاة الدقم 230 ألف برميل يوميًا، وتنتج الديزل ووقود الطائرات، إضافة إلى النافثا وغاز النفط المسال. ومن المقرر بدء التشغيل التجريبي لمشروع مصفاة الدقم في الربع الأول من 2023.

ولا شك أن قطاع اللوجستيات من أفضل القطاعات الجاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي، وتعتبر وسيلة من وسائل تنويع الاقتصاد في أي دولة، فضلا أنه يحتل مكانة مرموقة في قائمة الاستثمار الأجنبي بالنظر إلى الفرص الكبيرة التي تعرضها الموانئ العُمانية، كما أنه عامل مساهم في دعم قطاعات مختلفة مثل السياحة والثروة السمكية والصناعات التحويلية والتعدينية، خاصة وأن السلطنة تمتلك موقعا جغرافيا استراتيجيا مميزا على خطوط التجارة والملاحة العالمية، وهي الدولة الخليجية الوحيدة المطلة على بحر العرب والمحيط الهندي واللذين يمر من خلالهما ثلث صادرات العالم من موارد الطاقة. ويعد هذا القطاع من القطاعات الغنية بفرص العمل.

ويرى الخبراء والمحللون والمخططون أن "الدقم" نقطة دخول وخروج بديلة للمنطقة إذا أصبحت الطرق البحرية في الخليج العربي معرضة للخطر، فضلا عن الاعتراف الدولي بسياسة السلطنة المستقرة والثابتة والآمنة وعلاقاتها الطيبة مع جيرانها، وسمعتها الدولية الجيدة تجعلها نقطة تحول أنظار العالم إلى اختيارها كوجهة استثمارية واقتصادية وتجارية وسياحية بالمستقبل القريب.

 ومما يثلج الصدر أن دولًا وشركات عالمية بدأت فعليًا تتهافت وتتسابق على الاستفادة من الخدمات والعروض التي تقدمها المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم على المستثمرين وتحفيزهم وتشجيعهم، وتذليل كل الصعوبات والتحديات التي تعترضهم؛ حيث تُفيد إحصائيات بتجاوز الاستثمارات المقدّرة المخصّصة للمنطقة، حتى الآن، 14 مليار دولار أمريكي من مستثمرين وشركات دولية مختلفة؛ ومنها على سبيل المثال بريطانيا وأمريكا وبلجيكا وفرنسا والصين والهند والسعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر والأردن ولبنان.

ونود أن نشير هنا في هذا السياق إلى المساعي الحكومية لتشجيع وتحفيز وترويج وتسويق الاستثمار في المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم؛ حيث أعلن عن بعض التسهيلات مؤخرا ومنها: تيسير وتسهيل الحصول على الأراضي بموجب عقود إيجار طويلة الأجل وأسعار فائدة منخفضة، وإزالة أي قيود على الملكية الأجنبية والحد الأدنى من رأس المال مع الإعفاء / خفض الضريبة على الشركات والرسوم الجمركية، هذا إضافة إلى الحوافز المطبقة على الصعيد الوطني، مثل الإعفاء من الضرائب الشخصية على الدخل، وقابلية تحويل العملات، وإعادة تدوير رأس المال والأرباح الاستثمارية.

وهنا نطرح بعض الأفكار لزيادة الاستثمار:

أولًا: تدريب الشباب في القطاعات والمجالات الاستراتيجية الواعدة وتكثيف الدورات التدريبية المؤهِّلة لصقل الشباب العُماني بمهارات ليصبح ذا كفاءة عالية ويستطيع تحمل مسؤولياته المستقبلية.

ثانيًا: زيادة التعاون بين الحكومة وشركات القطاع الخاص المتعددة الجنسيات؛ باعتبارهم شركاء أساسيين ومساهمين في عملية التنمية الاقتصادية وحل المشكلات الاقتصادية وبناء ثقة متبادلة، وتحفيز هذه الشركات للاستمرار بالاستثمار، مع تسهيل الإجراءات اللازمة لها.

ثالثًا: نشر الوعي التنموي بين المستثمرين وتوفير جميع البيانات والمعلومات اللازمة.

رابعًا: الإسراع في إنجاز سكة القطار وربطها مع جميع المناطق الصناعية بالسلطنة ودول الخليج لسرعة وتسهيل نقل البضائع والشحن من وإلى الدقم.

خامسًا: ضرورة إعادة النظر في إجراءات وشروط وحجم التمويل للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة؛ بما يتناسب والظروف الاقتصادية الحالية.

سادسًا: استكمال مسح وتأهيل وتهيئة مساحات الأراضي المخصصة للانتفاع واستكمال بنيتها التحتية لسهولة وسرعة التعامل معها.

سابعًا: ضرورة تخفيض تكاليف النقل والشحن البري والجوي والبحري لتشجيع وتحفيز الإقبال وجذب الاستثمار المحلي والأجنبي.

ثامنًا: ضرورة خفض تذاكر الطيران من وإلى منطقة الدقم الاقتصادية لتسهيل التنقل.

تاسعًا: منح المستثمرين العُمانيين ميزات أفضل مثل حجم التمويل والقروض الاستثمارية ومدة سداد استحقاقها مع التعامل المرن والسهل في إنجاز وتخليص المعاملات.

عاشرًا: التعاون والتنسيق مع وزارة السياحة لطرح مناقصات لإقامة مناطق سياحية وترفيهية ومنتجعات سياحية تتواءم مع الحركة التجارية والصناعية والاقتصادية بالمنطقة.