"الحكواتي" وأثره

 

 

نور بنت محمد الشحرية

قمت بزيارة لمكتبة الطفل في مجمع السلطان قابوس الشبابي للثقافة والترفيه، بهدف تنفيذ فقرة توعوية للأطفال من خلال قراءة القصص عليهم، وصادف أن التقي الرائعة قلبًا وقالبًا الأستاذة والكاتبة ثمنة الجندل، جمعنا المقصد الواحد، فقد كانت تقدم فقرة "الحكواتي" في مكتبة الطفل بالمجمع ضمن فعاليات موسم ظفار الثقافي الرياضي للعام 2022م التي تقوم بها المديرية العامة للثقافة والرياضة والشباب بمحافظة ظفار للأطفال من خلال تقديم مسابقات ثقافية وبرامج قرائية ورسم وتلوين وتقديم قصص مرئية مشاهدة من التلفاز و عرض مسرح الدمى الذي يقدم للأطفال بالمجمع وهي جهود يشكر عليها القائمون جميعا للاهتمام بالطفل من كافة النواحي الفكرية.

هدف الأستاذة ثمنة كان تربويًا محضًا، إضافة الى المحافظة على الموروث الشعبي الأدبي والذي يعتبر شغلها الشاغل، والواضح جليا لكل متتبع للقاءاتها وإصداراتها الأدبية من خلال إحياء "الحزايا" القصة الشعبية القصيرة والأمثال الشعبية، بهدف حفظ الهوية الفكرية والاجتماعية لسكان المنطقة.

وفي انتظار أن تنتهي فقرة "الحكواتي" للقامة الأخلاقية والتربوية، جلست أراقب الصغار المتحلقين حولها ومستمعة معهم لها طامعة أن استغل تلك الدقائق وأنهل من فيض عطاءها الجاري، النابع من خلاصة تجارب أكاديمية وثقافية وتربوية للأجيال، وكم كان النهر عذبا ويا لخصوبة التربة من حوله. صمتهم وانصاتهم لها في استمتاع وتركيز لما تقوله بغية الإجابة على الأسئلة التي تلي قراءة القصة أذهلني، فأكبرهم سنا لم يكن يتجاوز السابعة من عمره والمذهل أكثر أن القصة تحمل في طياتها معاني دينية وأخلاقية واجتماعية، تقف عليها القاصة بين كل جملة وجملة، على الرغم أن المستمع للقصة للوهلة الأولى يجدها نوع من الخرافة، لأنها تروى على ألسنة الحيوانات، بعض الصغار قد حضر معها من قبل سرد "الحزاية " وكانوا يسابقونها لاستنتاج قيم الخير والشر منها، جال بفكري الكثير وقتها وأضعت على نفسي مرح التعلم مع "الحكواتي" والصغار من حولها تسألهم وتوزع عليهم الحلوى بعد كل إجابة صحيحة ويرتمون بين أحضانها بكل حب فاتحة لهم ذراعيها ليحتضنهم قلبها الحاني.

أول ما طرأ علي كان حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله يكتب له بها درجات، وأن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب"، لأن زرع قيم الخير في النفوس وتعليمها للصغار وترسيخ الإيمان بالله وعدله وأن الخير ينتصر ولو بعد حين، يعد بابا من أبواب الدعوة لله، فهؤلاء المولدون على الفطرة، حينما توجه فطرتهم توجيها صحيحا منذ نشأتهم مهما عصفت بهم المنون وريبها ومهما تلونت معهم الأيام بصفوها وكدرها لا يزعزع إيمانهم ضيق ولا يقوى على تغيير مبدأ عقيدتهم الراسخة نائبة ولا يسلمون عقولهم لذو فكر هدام أو وساوس شيطان.

مرت بي مشاهد علقت في ذاكرتي، وتأبى أن تغادرها وتستثار مع كل حديث عن الخير والشر والنهاية المنتظرة للمبتلين، مشاهد لبعض من "الحدوا" والعياذ بالله وأنكروا وجود الخالق من هول ما رأوا وعانوا من ظلم ، خاصة في الدول التي تعصف بها الحروب وطال بهم الأمد، فذاقوا أصناف العذاب حتى أنكروا وجود "إله" عادل ونهاية تعيسة للطغاة ، في حين أن بعض مواطنيهم ممن عانوا مثلهم لسان حالهم يلهج بحمد الله وشكره على البلاء، ومرت بي الكثير من الردود التي أقل ما توصف به أنها شيطانية للبعض تحت أخبار بعض الأحداث في مواقع لحسابات أخبارية على منصة "تويتر" يتساءلون  فيها عن العدالة والرعاية الإلهية للأطفال وكيف لهم أن يعذبوا ويقتلوا، ولو بهم ذرة ايمان لتيقنوا أن الله أرحم بالأطفال من أمهاتهم اللاتي ولدنهم وأن الصبر بابٌ بالجنة.

الواضح أن ما جعل البعض يتحمل العذاب والأهوال هي تربية إيمانية سليمة راسخة، وما جرف البعض نحو الإلحاد والنكران تربية ايمانية هشة، وليست الحروب فقط من تغير المبادئ، إنما إحساس الظلم مر وإحساس القهر أمرّن وقد أمرنا رسولنا التعوذ منه لشدته، والدنيا ليست جنة كل ما تتمناه يأتيك، ولا السلطة آلهة تعلم الغيب. قد يمر بالبعض الكثير من ضياع الفرص، والكثير من التأخير بالمطالب بسبب أفراد آخرين، لكنه إيمان مطلق بالله أن الرزق بيده، ولو أراد وشاء الله فلا راد لأمره.

أذكر في جولاتنا صغارا مع أبي-أطال الله في عمره- كان يغتنم وجودنا بالسيارة معه فرصة لمناقشة أفكار وترسيخ مفاهيم، أحيانا عدة إذا مررنا على بيوت جميلة البنيان كالقصور وبعضها لمسؤولين بالدولة. يسألنا: أعجبكم البنيان؟ وكأنه كان يقصد لفت انتباهنا له، نرد عليه بنعم، فيعقب على ردنا: صاحب هذا البيت حتما لديه شهادة علمية أهلته لوظيفة مرموقة براتب عالي، أو أنه بذل الكثير من الجهد الصادق فارتفع بناؤه هكذا. كان يشدد علينا في أهمية طلب العلم والصبر عليه، وأهمية القراءة والاستزادة في كل أبواب الثقافة، وأن تكون النية بالأساس بناء الوطن لأنه لنا ولأبنائنا ولأحفادنا من بعدنا، كبرنا والفضل والمنة لله سليمي القلوب، كثيري الثقة بالله وأن كل أمرنا خير مالم نقصر في السعي، نشأنا نحب العلم والعلماء ونحترم كل مجتهد ومجد.

وأرى اليوم من خلال قراءاتي ومشاهداتي لما يعرض في الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، من يحدث الجميع بما يحرق في قلوبهم كل بصيص أمل، يتحدثون عن فساد إداري ومالي بدون أدلة، إذا تحدث هؤلاء أمام أبناءهم بما يكتبونه وينشرونه ما الذي يتوقعونه منهم وقد مرروا لهم مفاهيم مغلوطة عن الظلم والعدالة والخير والشر؟

على أي خلق ودين سينشئونهم، فاللص حر طليق ويسكن قصرا، وربما أيضا وجيها حسب اتهاماتهم التي لا يلقون بالا لأثرها.

لا أيها الأعزاء.. تذكروا قوله تعالى: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" (الإسراء: 36).

وقد كفل القانون للجميع حرية التعبير بقصد التعمير، وأن يشارك الجميع في بناء الوطن وتقديم مقترحاتهم وانتقاداتهم البناءة عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، ولا توجد جهة حكومية انتقدت نقدا صحيحا، أوقفت أحدا أو كممت أفواه، وهذا مبدأ إسلامي أولا وسلوك حقوقي ثانيا، ودول المؤسسات دليل على المستوى المتقدم الذي وصلت له الدولة ثالثا، ولكن أن ينتقد البعض كل قرار ويهول الأحداث، ويرسم بسوداويته مستقبلا ضبابيا غير واضح المعالم، وحاضرا مجحفا قاتما، لأن أمنياته لم تحقق له وهو على فراشه يتخيل، أو لسوء ظن أو سوء فهم ، يعتلي المنابر ويلوح برايات الإصلاح ، ربما هو نبيل المقاصد ولكن للأسف نقول أنه أساء من حيث ظن أنه أحسن، رفقا بقلوب لا تعون ما تعاني من ظروف الحياة. قلوب تمني نفسها أن غدا أفضل وأن الصبر آخره فوز وفلاح وأن الخير حقا وصدقا آت ، وأن التغيير لابد أن يرافقه ألم ، وأن الدواء ليس حلوى حلوة المذاق، فالعلاج أغلبه إن أخذ بالفم مر كالعلقم، وإن أخذ عن طريق الأمصال فإن وخز الوريد مؤلم، والأهم أن أساس خلق الله للإنسان ليعمر الأرض بالعبادة والذكر وأن يكون جل انشغاله بتقصير قلبه لا بنقصان ما حوله.

 

علموا أطفالكم أن الخير محيط بهم، وأن الشر يطوقه القانون ورجاله ويقضون عليه، وأن الدولة كفلت للجميع نفس الحقوق ونفس الفرص بالتعلم، وأن العلم رفعه وأن المتميز يفرض نفسه ويتقدم، وأن المتأخر لم يبذل ما بذله المجتهد من جهد وإخلاص في دراسته وعمله، وأن الخير وإن تأخر إلا أنه سيأتي كالسيل العارم يكتسح ويجرف كل عقبة وقفت في طريق مده ، علقوا قلوبهم بالله، لا تتركوا عقولهم لقمة سائغة لكل ملحد في فضاء الكتروني يسيطر عليه غير المسلمين، وإن اجتهدت الحكومات في درء فساد وشر الإلحاد. ابنك وابنتك حصاد ما زرعته فيهم وما أوغرته في صدورهم من أحقاد ومخاوف.

وأهم ما يزرع في قلوب الأطفال، حب الانتماء للوطن فالأب والأم إلى رحيل ولكن الوطن حضن لا يشيخ ولا يموت إلا بإرادة أبنائه، إن أرادوه جنة مزهرة أبدية كان لهم ذلك بسواعدهم وحرصهم عليه.

ونتمنى من المعنيين إيلاء الوقاية أهميتها، بالتوجه للأطفال والمراهقين والشباب البالغين بتكثيف الرعاية لهم، وتوضيح إن أمكن ما خفي عليهم من أسباب إصدار بعض حزم القرارات الاقتصادية التي تضيق على المواطنين، بقصد تفادي ضرر أكبر عليهم إن لم تصدر، باللغة التي تتناسب مع فهمهم وإدراكهم، ليكون هذا الإدراك سدًا منيعًا لكل متخبطٍ.

تعليق عبر الفيس بوك