تفسيرات مخطوطة صنعاء

مصاحف صنعاء والمشككون في القرآن (7)

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **

 

تساءلتُ في المقال السابق: لماذا يُركز البحث النقدي التشكيكي الغربي في القرآن الكريم على نص "ممسوح" في مخطوطة قرآنية واحدة مُكتشفة في صنعاء (غير مكتملة، عبارة عن 80 رقًا جلديًا، بها اختلافات في ترتيب السور وبعض الكلمات)؛ للزعم بأنَّ القرآن الكريم تعرض للتحريف! في الوقت الذي يتم فيه تجاهل بقية مخطوطات صنعاء المُكتشفة معها، إضافة إلى كافة الـ250 ألف مخطوطة قرآنية تنتمي إلى أزمان تاريخية مُختلفة قبل ظهور الطباعة وتتوزع في متاحف ومكتبات العالم الإسلامي، وكلها مُتفقة مع مصحف عثمان؟!

كما تساءلتُ: هل هذا التركيز على أوراق مخطوطة للتشكيك في القرآن كله يتفق والمنهج البحثي العلمي، خاصة وأنَّ علماء المسلمين- قديمًا وحديثًا- يؤكدون أنَّ مصدرهم الأساسي في نقل القرآن عبر الأجيال وصولًا إلى يومنا هو القرآن "المحفوظ" في الصدور تواترًا، لا القرآن المكتوب والمعرّض لأخطاء الاستنساخ من قبل الخطاط بسبب غياب النقط والتشكيل عن المصاحف المُبكرة؟!

إنَّ الطعن في عصمة نصوص القرآن وسلامة نقلها من خلال نص قرآني ممسوح لمجرد اختلاف رسم كلمات فيه عن الرسم العثماني أو لغياب كلمات أو إضافتها، لا يُمثل منهجًا علميًا سليمًا .

وانطلاقًا من هذه الحقيقة الصلبة التي يتجاهلها البحث النقدي التشكيكي الغربي وهي أن قرآننا وصل إلينا "محفوظًا" قبل أن يكون "مكتوبًا" أتساءل: هب أنَّ جميع المصاحف المخطوطة والمكتوبة عبر التاريخ وإلى يومنا وفِي كافة المتاحف والمكتبات والمراكز، فقدت أو أتلفت أو ضاعت، فهل يضيع القرآن؟!

إنَّ أصغر أطفالنا من العالم الإسلامي من آلاف الحفاظ من غير العرب، كفيل بتلاوته وتسميعه لنا صحيحًا سليمًا كما أنزل، وهذا هو المعنى الحقيقي لقوله تعالى (إنا نزلنا الذكر وإنِّا له لحافظون)، إنه الحفظ المتواتر في صدور الآلاف الذين يتعبدون بتلاوته منذ نزول القرآن الكريم وعبر الأجيال المُتعاقبة وإلى يومنا وحتى يوم الدين.

إذن.. ما التفسيرات المُحتملة لوجود اختلافات في "النص السفلي الممسوح" في مخطوطة صنعاء الأكثر قدمًا عن "النص العلوي" المتأخر عنه زمنيًا بعقد ويتفق والرسم العثماني؟

هناك تفسيرات عدة منها:

أولًا: هذه الاختلافات معروفة ومعترف بها لدى كافة علماء الدراسات القرآنية والقراءات المسلمين منذ العهد المبكر في تاريخ تدوين القرآن، وليست اكتشافًا جديدًا إلا لدى بعض الباحثين الغربيين، فقد سبق وأن وضحت أن من يطلع على كتاب "المصاحف" لأبي داود السجستاني المتوفى سنة 316 هجرية، يجد نماذج كثيرة لهذه الاختلافات في مصاحف بعض الصحابة التي أحرقها عثمان رضي الله عنه حينما بعث بمصحفه الرسمي المُعتمد للأمصار، كما يذكر المؤلف كتبًا دونت هذه الاختلافات سبقت كتابه، أقدمها: كتاب اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق لابن عامر المتوفى 118 هجرية .

وقد أجاب علماء المسلمين عن ذلك، بقولهم: إن المصاحف التي كتبها بعض الصحابة (قبل مصحف عثمان الرسمي المجمع عليه من الصحابة عام 24 هجري) مجرد أجزاء متفرقة من المصحف تتضمن سورًا مُختلفة في ترتيب النزول وليست مصحفًا كاملًا مرتبًا، اعتمدت على الحفظ الشخصي للصحابي وكنسخة شخصية له تحتمل السهو في النقل واختلاف الترتيب، لذلك لم تكن مقبولة، لأنَّ القرآن لا يقبل فيه خبر الآحاد الظني بل لابد من التواتر الجماعي القطعي كما تمَّ في "مصحف عثمان".

ثانيًا: الخليفة عثمان بن عفّان رضي الله عنه، لم يتمكن من حرق كل ما في أيدي الصحابة والنَّاس من القرآن الكريم، خاصة في الأمصار البعيدة كاليمن، فلعلَّ هذه المخطوطة الصنعانية من بقايا مصاحف الصحابة التي لم تُحرق، وخاصة أن عثمان لم يبعث نسخة من مصحفه لليمن كما بعث للبصرة والكوفة والشام ومكة. ومن هنا فالاحتمال قوي بأنَّ من كتب هذه المخطوطة اعتمد على حفظ من بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة لليمن، فلما وصله النص الرسمي بعد عقد، محا القديم وأثبت النص الرسمي . وللحديث بقية.

** كاتب قطري