أوراق الزيت والمطياف

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

لكل مخلوقٍ حي مدى سمعٍ مُحدد، والصوت الذي أسمعه الآن وينتهي بسبب ابتعاده عن مدى سمعي قد يسمعه شخص آخر في وقت ومكان مُختلفين، وهذا مثال بسيط من الأمثلة الكثيرة للنسبية المعتمدة على المكان والزمان.

كانت سميرة توفيق تُلهب المسرح بالطرب الشامي في سبعينيات القرن الماضي وقد بلغت شعبيتها مبلغًا كبيرًا ولكن الطبال ستراك سركيسيان كان مجهولًا؛ ذلك اللبناني المُتَّقد نشاطًا وراء ضبط ميزان الإيقاع لأشهر حفلات بنت توفيق وغيرها من الفنانين الكبار في إبَّانه، لقد كان بمقدوره مُعادلة انزياح الصوت بين التباطؤ والتسارع بحسب الطلب والمزاج ومستوى التَّفاعل "والحياة بدون إنسان.. مسرحية عبثية بدون جمهور" كما يقول النمساوي أرفين شرودنجر.

عندما تتصل بصديق هاتفيًا في طلب مساعدةٍ ما ويباغتك بسؤال "أين أنت؟" فهذه كلمةٌ مختصرةٌ تحمل مضمونا خفيا وهو: أين موقعك الآن بالنسبة لي ولا تسألني عن موقعي، وعليه سيقيس ذلك الصديق الوفي الوقت والمسافة وسيضع في اعتباره السرعة التي سينطلق بها والطريق الذي سيسلكه وكل هذه الاعتبارات ستوضع في ميزان ذهني يعتمد على مستوى الأهمية والضرورة.

قد تكون كل هذه الأمور بديهية جدًا للإدراك في الوعي الظاهري وعند عامة النَّاس وقد لا تتطلب تفسيرًا علميًا أو غائيًا فلسفيًا، إلا عند القليل ممن تبقى علامات الاستفهام والتعجب حبيسة داخل عقولهم وتقلقهم لفترة قد تطول حتى تجد طريقها إلى الحرية على شكل قوانين ميكانيكية ومعادلات حسابية وأعمال فنية تُخلد على مر الزمان.

أثبت المحامي والملاكم والفيزيائي الفلكي إدوين هابل توسع الكون بطريقة انزياح الضوء، وقالت زوجة اينشتاين في زيارتها له: لماذا زوجي لم يكن مثلكم؟ لقد كان يكتب في المطبخ على أوراق زيت القَلي...! فأجابها بأنَّ ماوصلنا له اليوم كان بفضل تلك القصاصات التي كتبها زوجك، وعادت المسكينة تُتمتِم في حالةٍ من لا فهم واستمرت هكذا حتى وفاتها وهي لا تَعي ماذا قصد زوجها الراحل من كلمة يوريكا.

يبدو أنَّ البعض قد استعار الطبل الذي عزف عليه سركيسيان كالآلي بلا كلل أو ملل ومقراب بالومار الذي عشعش فيه هابل كالعصفور؛ وأخذ يستشعر الاستقطاب المصاحب لكل قضية تلامس المجتمع ليلهب الأحاسيس والمشاعر على مسارح التواصل وعلى مقامات النغمات الشرقية القومية والوطنية الشعبية أحيانًا، من خلال ضبط مُتقن لوتيرة نقراته حيث يتأرجح ترشيحه بين موجة الطيف الأحمر الطويلة إذا أراد إبعاد شخصٍ ما عن قضيةٍ تشغل الرأي العام ورفع الحرج عنه، وبين موجة اللون الأزرق القصيرة إذا أراد تقريبه من المشهد ليضفي عليه صفة الوداعة واللطف وربما الفارس الذي لا يُشق له غبار وذلك كُله بحسب مستوى التفاعل.

مع التصفيق والحماس وكلمات المدح والثناء، تلتهب المشاعر والأحاسيس مع صِبغةِ وطنيةٍ باهتة فينصب نفسه محاميًا مجانيًا مع كل ضربة إيقاع يطلقها وملاكمًا من الوزن الثقيل تارةً أخرى يكيل الضربات القاضية لمعارضيه، فإذا اتخذت مساراته المدى الذي يسمعه القريب والبعيد في أماكن متباعدة وأوقات متقاربة يجد نفسه تقنيًا مرشحًا لجائزة الأوسكار في إبعاد الناس عن القضية الأساسية التي تهمهم من خلال التركيز على الأمور الصغيرة، وربما السخيفة من باب التنويع، وازاحتهم إلى أبعد مدى عن أصل القضية التي كانت تشغلهم، ولكن طموح الداعمين والمصفقين له هو إمكانية ترشحه لنيل جائزة نوبل.

 

عزيزي متقمص "ظاهرة دوبلر".. إن العلاقة بين مهاراتك ومفاهيمنا في الوقت الحاضر هي علاقة عكسية بعد أن كانت في الماضي طردية تستنزف المآقي، وحيث إن تحركاتك باتت مكشوفة ولا تنطلي حتى على الأغمار والدهماء، فإن قدرتنا على رصدها كبيرة وإن بلغت سرعتها "3 ماخ" كوصول صوتك الصارخ بعد مرورك السريع ولن تحطم زجاج مشاعرنا المحصنة وسنقوم بتحليلها بكل دقة، كما أصبحنا قادرين وبكل بساطة على فهم أساليبك في الانقضاض والهجوم والدفاع والانسحاب التكتيكي.

احذر خصومة الأحمق، وإن كنت ثورًا، فهو يراك عصفورًا، كما يرى صاحب الرأس المطرقة كل من حوله مسامير!