الكتابة بين التطبيل والتقويم

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

ثمّة صراع أبدي بين الحق والباطل منذ بداية الخليقة إلى هذه الساعة وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، والسبب في ذلك الأنانية الزائدة من مُعظم البشر؛ إذ هناك في عالمنا من لا يزال يُقدس المنصب ويُحب المال ويسعى للنفوذ بأي طريقة كانت، وإن كانت ملتوية وعلى حساب الآخرين!!

ووسط هذه المُغريات التي تسيطر على النفوس المريضة والعقول المنحرفة، تأتي صحوة الضمير والاعتراف بالخطأ وتصويب النفس نحو الاستقامة لدى البعض قبل فوات الأوان، وذلك من خلال بوصلة التوجيه والإرشاد والتوعية والتثقيف، من المنابر الدينية التي تدعو إلى الزهد والتقوى والأمانة، والمؤسسات التعليمية كالمدارس والجامعات التي تعلم الأجيال القيم التربوية والأخلاق الحميدة والمهارات العلمية والحياتية المختلفة، هذا فضلاً عن دور الأسرة، وخاصة الوالدين الذين يغرسون في الأبناء التنشئة الاجتماعية وثقافة المجتمع وواجبات الأفراد تجاه الغير.

ومع مرور الوقت، ظهرت وسائل الإعلام المعروفة، ثم منصات وسائل التواصل الاجتماعي التي نازعت المؤسسات التقليدية بعضًا من أدوارها واختصاصاتها الأصيلة؛ بل هناك من يعتقد أنَّ الإعلام بمختلف منصاته التقليدية والرقمية، قد سحب البساط من الجميع وأصبح هو الذي يربي الأجيال الصاعدة ويوجه الرأي العام وصناع القرار، وخاصة في المجتمعات التي تتمتع بحرية نسبية كفلتها الدساتير والقوانين التي تحمي حرية التعبير وحقوق الإنسان.

الإعلام الحر- وعلى وجه الخصوص الصحافة المكتوبة التي تعتمد في خطابها ورسالتها المعبرة والمؤثرة والتي يسطرها قلم أمين ومن كاتب صادق ومدرك لمختلف الأوضاع المحيطة بجميع أطياف المجتمع- يُعبِّر بالدرجة الأولى عن هموم النَّاس وطموحاتهم نحو تحقيق مستقبل أفضل، فالكتابة كالقبس المنير الذي يُكتب بماء من ذهب؛ لأهميتها وتأثيرها النافذ على الجمهور، فالكلمة الصادقة تخترق القلوب، وتُسعد النفوس، وتفتح آفاقًا جديدة للمتلقين الذين ضاقت بهم السبل وخذلتهم الأيام، وتعرضوا للظلم والحرمان من البعض الذين يفترض بهم أن يكونوا سندًا لمن أحسن فيهم الظن أن يؤدوا الأمانات إلى أصحابها من الذين هم تحت نفوذهم وسلطتهم.

لقد اكتسبت الصحافة الحرة مكانةً مرموقة بين الشعوب؛ حيث أُطلِقت عليها أسماء رفيعة تُعبِّر عن رسالتها السامية في الدفاع عن الحق وكشف الفساد ومراقبة السلطات الثلاثة ومحاسبتها بالكلمة الصريحة التي لا تخاف في الحق لومة لائم. وهنا أتذكر مقولة لأحد روساء وزراء فنزويلا في القرن الماضي، عندما أشار إلى أهمية الصحافة ودورها الرقابي؛ إذ قال: "أُفضّل أن تُفتح في وجهي جهنم، على أن اسمع صرير قلم الصحفي وهو ينتقدني"!

لقد مرّت مرحلة صعبة على عالمنا العربي خلال العقود الماضية، تتمثل في شراء ذمم الكتاب من مختلف دول العالم مقابل الأموال والهدايا؛ بل وحتى المؤسسات الإعلامية الكبرى جرى استمالتها من خلال الهبات المالية والدعوات المتكررة في المناسبات المختلفة، فدور هؤلاء الكتاب المأجورين تمثل في "التطبيل" للذين يدفعون أكثر، وتعمُّد تلوين الحقائق، فينظرون إلى ما يُنشر باعتباره مساحةً إعلانيةً مدفوعة الثمن!! صحيحٌ أنه تم استنزاف الأموال العامة بهدف تلميع بعض الأنظمة الشمولية، لكن النتائج كانت مُخيبة للآمال، فهذه الرسائل الدعائية التي تُصنّف بالدعاية البيضاء لم تأتِ أُكلها كما خُطط لها؛ بل أَتَتْ بنتائج عكسية، ولعلنا نتذكر جميعًا ما حصل في ما يعرف بـ"الربيع العربي" عند ما زُلزلت الأرض من تحت أقدام العديد من الأنظمة العربية.

لا شك أن هناك من المتنفذين الذين يكرهون كلمة الحق والنقد البناء؛ ويفضلون بدلًا من ذلك المدح والتطبيل، وإبراز محاسنهم، وإن كانت قليلة أو نادرة. أما عند الحديث عن الحقيقة المرة، فالكل يغلق أبوابه، وينطبق عليهم المثل القائل "أذن من طين وأخرى من عجين"! ويتمنى أن يذهب الكاتب إلى الجحيم، إذا كان ذلك في مقدورهم.

يجب الاعتراف هنا بأنَّ الثقافة السائدة في عالمنا لا تحبذ النقد، بينما تفضل التبجيل والإطراء، فالصدور تضيق عند جميع المسؤولين، وحتى عامة الشعب في مثل هذه المواقف؛ فالكاتب أو الصحفي الصريح والصادق يُعاني الأمرّيْن في حياته، المرة الأولى في رحلة البحث عن المعلومة الصحيحة والمصدر الدقيق، ثم تأتي مرحلة النشر وردود الأفعال من المتضررين من الحقيقة، خاصةً كبار المسؤولين الذين يعتقدون أن قرارتهم وأفعالهم منزهةٌ من الأخطاء والخطايا، فيزعمون أن كل شيء على ما يرام!

أستطيعُ أن أتحدث عن تجربتي في الكتابة التي تمتد لبضع أعوام؛ فعند الحديث عن الحقائق الواضحة وضوح الشمس من منظور إيجابي، نجدُ من يُعاتب ويعتقد أننا "مُطبلين" في مقابل مكاسب شخصية، فمقالي الأخير الموسوم "ماذا ينتظر اليمن بعد الهدنة الثالثة؟!" والذي تضمن الإشادة بالسياسة الخارجية ودبلوماسية إطفاء الحرائق التي تميزت بها القيادة العمانية بشهادة العالم أجمع، اعتبره البعض مجاملة مكشوفة، كما إن المقال المعنون "السلطنة تخطو خطوات إلى الأمام باتجاه محاربة الفساد" قد ازعج بعض الأصدقاء الذين اتهموني بقول نصف الحقيقة وليس كل الحقيقة!

أما عند الحديث عن كتاباتي المُتعلقة بملف بالذمة المالية، والتوظيف، ومحاربة الفساد والمحافظة على المال العام، وحرية التعبير، فقد كان لها صدى إيجابي لدى الرأي العام، وذلك من خلال تصدر هذه المقالات قائمة الأكثر قراءة على موقع صحيفة "الرؤية"، وكذلك الرسائل التي تصلني من القراء عبر القنوات الشخصية.. لكن في نفس الوقت هناك تشكيك من بعض أصحاب المعالي الذين تم تقييم الإنجازات والإخفاقات للوزارات والهيئات التي يشرفون عليها. وهذا الأمر طبيعي وإيجابي في اعتقادي الشخصي، وكما قيل قديمًا "إرضاء الناس غاية لا تدرك".

وفي الختام.. على الكاتب الذي يُريد أن يحمي نفسه من الوقوع في المحظور، أن يلتزم بالمهنية والصدق والدقة في نقل الوقائع، وقبل ذلك كله، الأمانة والإخلاص لله والوطن والسلطان.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري