الأُمم الأخلاق (14)

 

الإعلامُ والأخلاق

د. صالح الفهدي

ما زال صدى الكلمة التي قالها لي مسؤولٌ إعلامي ذات مرَّةٍ يتردد في نفسي "الناس لا تريد القيم وإنما تريد الفرفشة" حينها سلَّمتُ على الرسالة الأخلاقية للإعلام في المؤسسة التي يرأسها الرجل، وعُذْتُ بالله من "الفرْفشَة" المقصودة!!

الإِعلامُ هو بحق "سُلطةٌ رابعةٌ" كما يُطلق عليه، نظرًا لتأثيره على الرأي العام، والتوجهات الوطنية والسياسية العامة، وهو مسؤولٌ عن الحفاظِ على هُويةِ الشعب، وكينونة الأُمة، ومصير المجتمع، وتلاحم أفراده، وأمنِ مكوِّناته، وعليه واجب توجيه الثقافة العامة للمجتمع نحو ما يحفظ لها توازنها في المحافظة والإنفتاح في التعاطي مع الثقافات الأُخرى.

فإن كان الإِعلام متغاضيًا عن ما يمسُّ الأخلاق من شوائب، وما يصيبها من نكسات فهو إعلامٌ منبطحٌ أمام الأزمات الأخلاقية، مداجٍ للأفكار المنحرفة، فَقَد مصداقيته، وأضاعَ رزانتهُ، وأخلَّ بأمانته..! ذات مرَّةٍ عُرضَ برنامجٌ ساخرٌ ليس له من رسالةٍ عدا السُّخريةِ من مضامين محتويات برامج مرئية ذات أهدافٍ قيِّمة، والإستهزاءِ بأصحابها، بعد ذلك قُلتُ لأحدِ المسؤولين عنها، وقد كان يرى أنَّ البرنامج بابٌ للفكاهةِ والتقليد، قلتُ له: لم أتصوَّر أن إبداعاتكم الخلَّاقة قد أوصلتكم إلى هذه المنزلة التي فهمتم فيها السُّخرية والإستهزاء بأصحاب البرامج البنَّاءة بأنَّها فكاهةٌ وطرافة..! لقد ارتكبتم عدَّة مخالفات، أوَّلها: خالفتم أمرَ ربُّكم في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ" (الحجرات: 11)، ثانيها: خالفتم رسالة الإعلام السَّامية التي يُفترضُ أن تعارضَ السخرية لا أن تشيعها وتشجِّعها وتقودها من خطامها! ثالثها: نسيتم أن مجتمعكم قد تربَّى على خُلُق السَّمت وليس على (الطِّنازة)، رابعهما: تجاهلتم أنَّ السخرية بالأشخاص إنَّما يعني السخرية بالرسائل الهادفة التي اجتهدوا وتعبوا من أجلِ تقديمها للناس، وكأنَّكم تقولون للناس إنَّما كانت تلك الرسائل محضُ هراء..!! كانَ المسؤول الإِعلامي مدهوشًا وهو يستمعُ إليَّ، ثم التفتَ إلى مسؤولٍ آخر يصغرهُ منصبًا، وقال: صحيح والله، فاتنا كلَّ هذا..! لكنه عاد وقال: إنَّ كل من يظهر في التلفزيون لن يسلم من التقليد!!، قلتُ له: جميل، ما رأيك أن تطبِّق نظريتك العظيمة هذه على العالم الفلاني الذي يظهر في التلفزيون أيضًا، قم بتقليده بالطريقة السفيهة التي قلَّدتم بها أصحاب الرسائل البنَّاءة لكي تُصدِّق نظريتك، فسكت وقد أُسقط في يده..!

من المؤسف أن هذا المسؤول الإعلامي ومن أعلاه لم يكلِّفوا أنفسهم عناءً بسؤال: كيف للمجتمع أن يرتقي ويتقدم بثقافة السخرية والاستهزاء؟ وكيف لهذا المجتمع أن يكون مجتمعًا جادَّا في تفكيره، غنيًّا في ثقافته، خلاَّقًا في إبداعاته، وهو يتعاطى الغمز واللمز والهمز في كلِّ وقتٍ وآن؟

الإِعلام حامي الأخلاق عن الانحراف، وحافظها عن الإِنحدار، فإنَّ كان على خلاف ذلك، سار على منهج "الصحافة الصفراء" التي عُرفت في الغرب بأنها تُطبع على صفحاتٍ صفراءَ رخيصةً، تتقصَّى الفضائح، وتشوِّه الحقائق، بغية الترويج التجاري لنفسها، دون أيَّ اعتبار للقيم والأخلاقيات وخصوصيات البشر، ولا للرسالة الإِعلامية الهادفة، أو المهنية المتعلقة بالوسائل الإعلامية.

قال لي أحد المسؤولين الإِعلاميين ذات مرَّة، وهو يعني البرامج السطحية في ما تقدِّمه من محتوى مبتذل: "هذا ما يريده الجمهور"، فسألته: هل لديك إحصائية على ما تقول؟ فلم يجب، ولهذا يصنع بعض المسؤولين عن الإِعلام، وبعض صنَّاع المسلسلات مبرراتهم الشخصية ويلحقونها بالجمهور، مزيِّفين الحقائق، والغاية من وراء ذلك تمرير أفكارهم بحجَّة أن الجمهور قد أراد ذلك، والجمهور بريءٌ من ذلك..! لكن من يمتلك القدرة على صناعة رسالة إعلامية، فإنه يستطيع أن يسوِّق محتواه بغضِّ النظر عن قيمة هذا المحتوى، ولعلنا نرى مسلسلات لا تمتُّ بصلةٍ إلى واقع الشعوب، يريدُ من ورائها صنَّاعها ترويجها تجاريًا من أجل الكسب المادي وتحريف الأخلاقيات على حساب هوية الشعوب رغم مخالفتها للواقع، توافقًا مع نظرية جوزيف جوبلز وزير الدعاية في حكومة هتلر النازية "اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس"!

أما لما يكون الإِعلام مبنيًا على حُسن النوايا، وسلامة الرسالة فإنَّه ثماره تكون عظيمة، إذ يكفي أن نعلم أن الذين أسلموا بسبب فيلم (الرسالة) قدِّر بنحو واحدٍ وعشرين ألف معتنقٍ للإِسلام، على خلاف دُعاة (الفرفشة) الذين لا يمكن أن يحققوا شيئًا لأوطانهم من خلال برنامجهم الإِعلامية التي تبتعد عن الأصالة والإبداع الخلاق.

يقول أيمن جمال منتج فيلم (بلال) كنتُ أدرسُ الإعلام في أمريكا فاشتكيتُ إلى الأُستاذة المحاضرة مما اعتبره هجومًا على المسلمين وافتراءً عليهم في أفلام هوليوود، فقالت: ردُّوا عليهم بمثل ما يفعلون، وتعنى من خلال إنتاج الأفلام، ومن هناك جاءته فكرته فيلم (بلال) الذي كافح طويلًا من أجل ظهوره.

حتى داعش هذه الفرقة الدموية التي أساءت إلى سمعة الإسلام والمسلمين استطاعت أن توظِّف الصورة الإِعلامية السينمائية المبهرة في إظهار شناعاتها وفضاعاتها لترعب الناس بالصورة فتنشر الرعب والخوف في قلوبهم، ولهذا تُركت مدينة الموصل لهم بسبب ما كانوا ينشره إِعلامهم الإرهابي، وتساءلت حينها: كيف استطاعت هذه الجماعة الإرهابية أن تفعل ما لم تفعله دولٌ عربية إسلامية على رغم موازناتها وقدراتها الكبيرة؟!

الإِعلامُ وصيٌّ على أخلاق المجتمع، وعقيدته، وهويته، فإن نشرت صحيفة ما يخالفُ شريعة المجتمع، وأخلاقياته، فقد أذنبت في حقِّه، وإن بثَّت ما يسيء إلى آدابه وعاداته فقد أساءت إليه، فهي صوته الذي يعلو، ولسانه الذي يتكلم، وضميره الذي يعبِّر.  

واليوم على اتساع وسائل الإعلام ومنصَّاتها، أصبحت كلَّ كلمةٍ مكتوبةٍ، وكل مقطعٍ مرئي أو صوتي لها تأثيراتها النافذة، لهذا فهي جميعها مسؤولة عن الحفاظ على أخلاق المجتمع، ومراعاة آدابه، والحفاظ على أُسس هويته وخصوصياته، ولا يجب أن يتنصَّل من هذا إلا من له نوايا أُخرى يريد بها إفساد المجتمع..!