أوكرانيا.. إرادة القوة والتلويح بأدوات الفناء الكلي

 

 

سالم بن مسلم الدوسري المهري

 

ظهر اسم أوكرانيا على كل القنوات العالمية وأصبح مادة إعلامية وسياسية وعسكرية، وأداة لإعادة فرض القوة والنفوذ من خلال إعادة التموضع الجيو-سياسي للمُعسكرين الشرقي والغربي؛ القديمين المتجددين، بحساب الأدوات التي يملكها كل طرف لاستخدامها على أرض هذه الدولة ذات الموقع الاستراتيجي والصاعدة بإمكانياتها الاقتصادية الكبيرة بما تحتويه من موارد طبيعية هائلة.

هذه مُبررات مقنعة ومنطقية، تجعلها جاذبة للصراع الذي هو إلى حد كبير كان- وسيكون- بين العدوتين لبعضهما- كلاسيكيًا- روسيا وأمريكا.

أوكرانيا دولة بنزعة تحررية نحو الغرب مع أنها تتكون من شعب مُتعدد القوميات والأعراق (السلاف) ذات مرجعية (مذهبية دينية) تجمعها بالقومية الروسية، وهذا الواقع الذي تحاول (أوكرانيا) الهروب منه نحو الغرب، وهناك من يقول إن غالبية الشعب الأوكراني دخل في إشكالية عقائدية فكرية ولم يعد يؤمن بالدين من حيث المبدأ. هنا كان الاتحاد السوفيتي البائد الذي تناثر إلى دول وقوميات كانت ناطقة باللغة الروسية التي كانت اللغة الرسمية الأولى ضمن الدول السوفيتية فُرضت بصورة إجبارية على شعوب تلك الدول المتعددة الأقوام والعرقيات والديانات.

الغزو الروسي أتى مُباغتًا بعد تسويق ومحاولة تمرير حملة "بربوجاندا" إعلامية ضخمة من قبل الأدوات الإعلامية للرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرجي لافروف، ضد أوكرانيا؛ سيرًا على نهج الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن ووزير خارجيته كولن باول قبل غزو العراق. وقد شكلت حقيقة الغزو صدمة للغرب- وتحديدًا حلف شمال الأطلسي "ناتو"- نظرًا لحجم المدافع والصواريخ التي وُجهت لهذه الدولة التي تتعرض لأيام وليالٍ صعبة، بعد محاولات وتوسل ساسة غربيين لروسيا ألّا تفعلها، لكنها فعلتها وأسقطت رهاناتهم ولم يستطع أحد منهم فعل شيء حتى الآن، عدا التهديد بقص شرايين الاقتصاد الروسي على المدى المتوسط، بعد الإكثار من التصريحات والمُؤتمرات الصحفية المقتضبة.

نفترض جميعًا أن الغرب سيتحرك في ذلك الاتجاة كخيار تكتيكي رغم التداعيات التي ستُحدثها تلك العقوبات على اقتصاديات الغرب وخاصة أوروبا، وهذا الذي يثير قلق البعض من أن هذه العقوبات على روسيا ستؤدي إلى إحداث تصدعات وأضرار هائلة على بعض المتحالفين من المعسكر الغربي وهذه أداة  تراهن عليها روسيا على المدى المتوسط.

لقد رسم الثنائي "بوتين- لافروف" الأهداف الظاهرة روسيًا، لكن هناك الهدف الخفي الذي يتمثل في أن روسيا بوتين- لافروف تُريد أن تقول وبشكل قوي إنها قادرة على أن تضع الآخرين (الولايات المتحدة والناتو) أمام خيارات مصيرية ليست أقل من أن تكون مهلكة إستراتيجيًا، لو سلك الجميع هذا الطريق الموصل إلى إشعال حرب عالمية ثالثة، قد تؤدي غالبًا إلى فناء ملايين من البشر يكون أغلبهم من "الشعوب المُتحضرة"، كما يزعمون هم هذه الأيام، والإبقاء على بعض من شعوب "العالم الثالث"، الذين قد يموتون جوعًا نتيجة عدم قدرتهم على إطعام أنفسهم، بعد فناء من كان يصدر لهم الغذاء ويصنع لهم الكساء ويستخرج لهم ثرواتهم من باطن الأرض ومن عليها.

بغض النظر عن الصراع الجيو- سياسي والحربي بين المعسكرين التقليديين الذين تكوَّنا على أسس عقيدتين سياستين مناهضتين لبعضهما بنهاية الحرب العالمية الثانية، فقد عاد المعسكران إلى المواجهة مرة أخرى، ويبدو أنَّ هذه المواجهة ستكون أكثر قسوة وتدميرًا، وربما تصل إلى المواجهة العسكرية، لا يعرف أحدٌ مدى حجمها.

بوتين ولافروف المنتشيان بقوة روسيا العسكرية قد يكونان مصابين بجنون عظمة السلطة، وهذه حالة يُصاب بها أغلب من أمضى في السلطة سنوات طويلة، فالثنائي بوتين ولافروف لن يتراجعا عن هذه الحرب قبل تحقيق الأهداف التي رسماها، على أمل إحداث توازنات في المشهد العسكري والسياسي في قارة أوروبا والعالم بأسره. وقد استعدت روسيا لذلك وهي عازمة على قهر القوى الغربية (الناتو) وإرسال رسائل شديدة، وكأنها تقول تعالوا إلى الميدان إن استطعتم، وذلك بعد أن استعرضت صواريخها النووية المُرعبة بمناورات استراتيجية للأسلحة التي يمكن أن تدمر البشر 7 مرات أو أكثر، وجعلت المحللين والسياسيين في الغرب في حالة ذهول وعض أصابعهم المرتعشة!

الخلاصة.. لا شك وليس خافيًا على أحد أنَّ روسيا ستواجه عقوبات اقتصادية قاسية وطويلة هذه المرة، ولن يكون لها وقت محدد أو نهاية حتى تصل إلى المفاصل التي تؤثر تأثيرًا تاريخيًا على أباطرة المال، وخاصة طبقة "الأوليجارش" الروس، وعلى صناعة القرار السياسي والعسكري في روسيا، التي تريد أن تعود إلى منصة التأثير على صناعة التوازنات الدولية.

وفي تصوري الشخصي، لن يُفكر أحد في الغرب في تخفيف العقوبات الاقتصادية على روسيا طالما بقي الثنائي بوتين ولافروف في السلطة، وهذا السلاح الذي سيستخدمه الغرب كأداة لتدمير اقتصاد من لا يدور في فلكهم، حتى وإن كانت دولة ليست بحجم روسيا، ولن ننفي حقيقة أن أحد أهداف الغرب (الناتو) ينطلق من الكراهية والبغضاء والانتقام من الثنائي بوتين ولافروف، وهذا قد يستغرق بعض الوقت، وكلاهما يدركان ذلك تمامًا.

إنَّ إرادة القوة نظريًا تتجلى في هذا الحدث الاستثنائي المحفوف بالمخاطر على أرض أوكرانيا، لكنه قد يُؤدي إلى إعادة تموضع مراكز القوة في العالم، شرقًا أو غربًا، وليس في الوسط (العرب). ولننتظر!

تعليق عبر الفيس بوك