بيع الأراضي الزراعية للأجانب وإعادة استثمارها لهم

 

د. عبدالله باحجاج

نقوم منذ الأسبوع الماضي وحتى الآن بعمليات استقصائية ميدانية بعد مقالنا الأخير المُعنون "شراء الأجانب للعقارات في ظفار"؛ لدواعي التعمق في هذا الملف، واكتشاف الخلفيات والثغرات التي ينفذ منها الأجانب، وطرق ووسائل التواطؤ معهم من ضعفاء النفوس من جهة، ولأنَّ طبيعة التحولات المالية والاقتصادية لبلادنا تنتج سيكولوجيات يغلب عليها الطابع المادي والفرداني التي لا ترى إلا منفعتها الضيقة فقط، من جهة ثانية، ولإيماننا بأننا في حقبة زمنية من أخطر المراحل التي تمر بها بلادنا من جهة ثالثة، فما قد يتم فيها، سيشكل ملامح المصير المستدام، سلبًا أو إيجابًا.

زرنا من خلال استقصاءاتنا مُؤسسات حكومية، والتقينا بكبار مسؤوليها، وتواصلنا هاتفيًا مع آخرين على مستوى أكبر، واكتشفنا من خلالها مجموعة ثغرات وقوانين وإجراءات تنظيمية قديمة لم تعُد صالحة لمرحلتنا الوطنية الراهنة، ومن خلالها تنفذ بعض الاختراقات، وكنا قد كتبنا مقالًا عنها، غير أن لقاءً مع مسؤول كبير صبيحة يوم إرسال مقالي للنشر، قد جعلني أؤجل هذا المقال رغم آنيته المستعجلة، ونكتب مقالًا آخر أكثر تركيزًا على قضية الأجانب وشرائهم الأراضي الزراعية في ظفار تحديدًا. ولماذا ظفار؟ لأنها منطقة استقصاءاتي وبحكم تموقعي السكني والاجتماعي، وقد يشكل ما يحدث فيها نموذجًا لما قد يحدث في عموم البلاد، أو أنه يحدث فعلًا، وبالتالي، فإننا نعممها من منظور النموذج الظفاري.

المُثير في قضية الأراضي الزراعية في ظفار وفق الحالات التي نبني عليها المقال، أنَّ الأجانب يشترونها من مواطنين، ومن ثم يحاولون إعادة استثمارها لمواطنين آخرين، وبدورهم- أي المواطنين- يقومون بإعادة استثمارها للأجانب، هذا طبعًا بعد تحويلها من زراعية إلى تجارية، في إطار منظومة انتفاع متعددة إقليمية وداخلية، وتحولات مادية جنونية تظهر على بعض الفاعلين المحليين، لا يهمها المصالح الوطنية المستدامة، وإنما جُلّ همها الانتفاع المالي، وهذا الجنوح من مسلمات طبيعة المرحلة المنفتحة والمفتوحة على كل التحولات والاحتمالات، إلّا أن التساؤلين الكبيرين هنا، يكمنان حول: كيف يُسمح بتحويل الأراضي الزراعية إلى تجارية؟ وكيف يُترك للأجانب الإقليميين شراء الأراضي ولو بطريقة مُستترة؟

وقد كانت القضية الأخيرة محور نقاشاتنا مع بعض كبار المسؤولين في ظفار من خلال استقصاءاتنا، وما نؤسسه الآن أو نصمت عليه، سيُشكل واحدًا من بين التحديات الكبرى مستقبلًا؛ لذلك فعملهم ليس روتينيًا ولا تقليديًا أو نمطيًا، وإنما عمل الفكر في كل ما يتعلق بصلاحياتهم التدبيرية والتسييرية، وصناعة الشراكة المتكاملة مع كل المؤسسات المعنية على الصعيد الإقليمي والوطني لحصانة المسير ونتائجه النهائية الإيجابية للمصير المستدام.

المتأمل في تحويل استعمال الأراضي الزراعية في صلالة إلى تجارية، يدعو للدهشة والاستغراب، واستمراريتها يكشف أننا في وادٍ، وما يجرى للعالم من أزمات غذائية، والتوقعات المتشائمة لمستقبلها في وادٍ آخر، وكأنها- أي الأزمات- لا تعنينا، ولن تقترب منِّا، وهذا لسان حال الأفراد وهم "البائعون والمشترون والمتفرجون عليهم من أفراد وجماعات محلية"، وهذا لسان حال الفاعلين في المؤسسات الحكومية الإقليمية، وعندما سألتُ أحدهم في استقصاءاتي الميدانية، عن كيفية شراء مستثمر إقليمي مزرعة في صلالة، ذكرناها بالاسم، اعترف بعملية الشراء، لكنه لم يعرف كيف تمت؟ ربما يعلم! لكنه لا يرغب الكشف عنها. ومهما يكن، فلماذا يلزم الكُل الصمت على هكذا قضايا استراتيجية؟

يحمل مشهدنا الوطني الآن تناقضات صارخة، ففي أكتوبر من كل عام نحتفل بيوم الشجرة، وتقوم مؤسساتنا الحكومية المعنية بالملف الزراعي، بتدشين مشاريع زراعية ونشر الأصناف المُحسَّنة، وفي الوقت نفسه، تسمح وتتغاضى عن بيع مزارعنا للأجانب، وتحويل استعمالها إلى تجارية، وفي الوقت ذاته كذلك، تُترك أشجارنا السيادية كالنارجيل والفافاي والموز تغزوها الآفات الحشرية.. إلخ، ويصبح تواجد منتوجاتها بين المعدوم في السوق، والندرة فيه، إلى أن أصبحنا نستورد النارجيل والموز- على سبيل المثال لا الحصر- بعد ما كانت مزارعنا تنتجهما بكميات تصديرية للخارج، وهي تشكل أهم مميزات جغرافية محافظة ظفار. وهذه مآلات الواقع المؤسساتي والاجتماعي وانفلاته، وتغليب الآنية والأنانية على المصالح العامة والوطنية.

القضية ليست في أن تظل المزارع بيد المواطنين حتى لو لم تُستغل الآن، فقد تأتي الحاجة الوجودية القصوى لها، ويصبح من السهولة زراعتها، على عكس بيعها للأجانب، وتحويل استعمالها إلى تجاري.. إنها عملية اغتيال للأراضي الزراعية في وضح النهار، والكل شهود عيان عليها، وتستوجب المساءلة والمحاسبة، فهذه الأراضي رغم ملكيتها الشخصية، فهي عامة، فقد مُنحت من الدولة لأفراد، لا يحق لهم اغتيالها، وهذه حقوق الأجيال عندما تقتضي تسخيرها للحفاظ على الوجودية البشرية الممتدة. فقد كانت كذلك لأجيال سابقة إبان الأزمات، ومن بينها الحروب العالمية، وتعطيل أو وقف سلاسل الإنتاج؛ حيث كان البحر ومنتوجات النخيل والموز والفافاي ضمانة غذاء الأجداد، ومكانتها المستقبلية كذلك، لذلك ينبغي أن تشكل ضمانة أمان، فكيف نغتالها بجنوح مالي وبصمت بل وبمُساهمة مؤسساتية ؟ دليلنا هنا الموافقة على تحويل الاستعمال، وعدم التقصي الدقيق عن خلفيات البيع والشراء وإعادة الاستثمار.

كل من يتابع السوق المفتوح عبر الإنترنت، سيُلاحظ موجة بيع الأراضي الزراعية، فالسوق يعرض أراضٍ زراعية للبيع، وبإغراءات تسويقية، تعكس حجم التحولات، والواقع ومآلاته المستقبلية. من هنا، نرفع هذه القضية المهمة- من قضيتنا المفتوحة حول شراء الأجانب للعقارات في ظفار- إلى مؤسسات الرقابة الحكومية المتخصصة بعد عجز المؤسسات المعنية عن الحفاظ على الكثير من الأراضي الزراعية، وبعد جنوح أصحابها، وبروز "ميكيافليين" جُدد أخطر مما سبق. ندعوهم لفتح ملف بيع وتحويل ما تم حتى الآن، والوقوف على حجم التفريط بالأراضي الزراعية، وخلفياتها، ومن ثم فتح أبواب المساءلة، والعمل في الوقت نفسه على الحفاظ على ما تبقى منها، وإلّا، فإنَّ غزو الاستثمار الإقليمي الآن جامحٌ، وبلا قيود، ويستغل الثغرات، وعدم كفاءة الإجراءات التنظيمية بين المؤسسات الحكومية، ووجود قوانين قديمة، مما يحتم الآن إعادة النظر في علاقات الشراكة المؤسساتية، وتحديث قوانينها وتغليظ القوانين.. وهذا مقالنا للأسبوع المقبل.