ضخ أموال واستثمارات.. ضرورة حتمية

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

على الرغم من التَّقدم الملموس على مُختلف الأصعدة والتعافي التدريجي للاقتصاد العُماني جراء الصعود الكبير لأسعار النفط والغاز، تبرُز الحاجة إلى الإسراع في تشغيل محركات الإنتاج والتنويع لتحقيق الاستدامة، والاستفادة من الوفورات المالية وتحسن التصنيف الائتماني ووهج الإرادة والرغبة لدى الجميع في تحقيق الأفضل لهذا الوطن.

ويدرك الكثيرون أثر الصدمات العميقة التي تعرض لها الاقتصاد العماني كما كان الحال بباقي اقتصادات العالم جراء جائحة كورونا وتوقف الأنشطة الاقتصادية والانخفاض الحاد في أسعار النفط. ولا شك أنَّ فضاء التجارب التنموية العالمية مليء بالتجارب التي يمكن أن تستفيد منها السلطنة دون الحاجة لاختراع العجلة.

وهنا نشير إلى أنَّ الاقتصاد العماني يواجه تحديين؛ الأول: في كيفية استعادة زخم النمو لما قبل الجائحة وما خلفته من انخفاض في حجم الطلب الكلي وإجراءات مالية وخروج عدد من المقيمين وانخفاض الدخل المتاح للشركات نتيجة لانخفاض الإنفاق الحكومي وانخفاض الدخل المتاح للأفراد جراء موجة التقاعدات والتسريح وتراجع الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص والتضخم وغير ذلك.

والتحدي الثاني- وهو الأهم- أننا في عُمان نحتاج ليس للنمو الاقتصادي بهيكلته الحالية فقط، وإنما تحقيق نقلات نوعية حتمية في تركيبة الاقتصاد العماني لتحقيق الأمن الاقتصادي الوطني المتمثل في توفير فرص عمل مجزية للأعداد المتزايدة من أبناء وبنات الوطن، ورفد الميزانية العامة المرتكزة بشكل غير مستدام على إيرادات نفطية غير مستقرة لتقوم بأدوارها في توفير الخدمات المختلفة واستكمال بناء البنية التحتية والتعامل مع ملف الدين العام وغير ذلك.

نشير هنا إلى أنَّ تغيير نموذج الأعمال السائد في السلطنة القائم على الاستيراد والعمالة الرخيصة متدنية المهارة، والتحوّل نحو نموذج أعمال قائم على الابتكار والإنتاج والصناعة المحلية كثيفة الاستخدام للتكنولوجيا والموارد البشرية العمانية، ليس بالأمر السهل، ويحتاج إلى إدارة واعية لتغيير الذهنيات بالقطاعين العام والخاص، ويستوجب الأمر من متخذي القرار الجسارة والمعرفة العميقة بتشابكية المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لاتباع سياسات غير تقليدية للحصول على النتائج المرجوة.

أقتصر الحديث في هذه السطور على ضرورة ضخ أموال واستثمارات في الاقتصاد العماني، فبدونها لا يُمكن للأعمال والأنشطة الاقتصادية أن تبدأ وتستمر ولا يمكن للطلب المحلي أن يزداد ولا للقوة الشرائية والفرص أن تتحسن. فعلى الرغم من تعدد أدوات ضخ الأموال وتوفير التمويل للاستثمارات فإنها ما زالت محدودة في السلطنة، فتكلفة الحصول على تمويل ما زالت مرتفعة؛ حيث يصل متوسط سعر الإقراض في السلطنة إلى 7 و8% وهي مرشحة للارتفاع نتيجة لاستمرار الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأمريكي في رفع أسعار الفوائد على أدوات السياسة النقدية؛ للسيطرة على معدلات التضخم غير المسبوقة. وهذه تكلفة مرتفعة في ظل العوائد المتواضعة للاستثمار في السلطنة. وكذلك الأمر في اشتراطات الحصول على تمويل؛ إذ ما زالت صعبة، وليست في متناول رجل الأعمال، والأمر لا يقتصر هنا على البنوك التجارية وشركات التمويل، لكن يشمل أيضًا بنك التنمية الذي يُعاني من ذات الإجراءات والاشتراطات الصعبة. وهناك غياب لبنوك الاستثمار وشركات وصناديق الاستثمار الخاصة ومحدودية التأجير التمويلي في القطاعات المختلفة، وخاصة العقارات. وتشير الإحصاءات الدولية- التي تناولناها في مقالات سابقة فيما يتعلق بالحصول على الائتمان- إلى تراجع كبير في مرتبة السلطنة بهذا الخصوص.

ويمكن الحديث هنا عن عددٍ من البدائل لتحريك السوق وتوفير التمويل وضخ الأموال والاستثمارات لتحفيز الاقتصاد العماني، من بينها: برامج التمويل المُيسَّر؛ حيث يمكن للبنك المركزي العماني تخصيص نحو 200 إلى 400 مليون ريال عماني لتمويل المشاريع والاستثمارات الريادية، تُصرف خلال سنة واحدة، بحيث يتم إقراض المبالغ للقطاع المصرفي بأسعار فائدة منخفضة لا تتجاوز 1%، على أن تقوم البنوك التجارية بإعادة إقراضها لأصحاب الأعمال سواء لتوسعة مشاريع قائمة أو جديدة بأسعار فائدة منخفضة أيضاً تتراوح بين 3- 4%، بحيث تكون أسعار فائدة الإقراض في المحافظات أقل منها في العاصمة، مع وجود آلية فعَّالة ومرنة للموافقة على الإقراض، تتضمن تقديم دراسات جدوى ووثائق أخرى من قبل المقترض وقيام البنك التجاري بمراجعته واتخاذ القرار بالإقراض من عدمه.

وهنا نؤكد على أهمية إدارة هذه القروض بعناية شديدة وعدم فتح الباب على مصراعيه وتوخي الأهداف الوطنية في تمويل المشاريع الريادية، وأن تكون باشتراطات مُيسرة وموجهة للقطاعات الاستراتيجية التي تمثل أولويات للتحفيز الاقتصادي مثل السياحة والتكنولوجيا والصناعات التحويلية، خصوصًا في المناطق التي تعاني من ارتفاع معدل الباحثين عن العمل ونمو ضعيف ومستويات تنمية متواضعة.

وانطلاقًا من أهمية دور الجهاز المصرفي، وإيمانًا بأنَّ قوة البنوك ومؤسسات التمويل من قوة عملائها من الشركات، ينبغي أن تتحمل البنوك وشركات التمويل جزءًا من أعباء إنجاح هذا البرنامج، وعلى البنك المركزي توفير مظلة لضمان القروض المتعثرة. وأن يتضمن برنامج ضخ التمويل مسارات خاصة لتسريع فلترة المشاريع وإجراء دراسات الجدوى لتلك المشاريع.

وقد تمَّ استخدام برامج "التيسير الكمي" بشكل واسع في الدول الصناعية الكبرى عقب الأزمة المالية العالمية في 2008، كما توسع استخدامه مؤخرًا في العديد من الدول لمواجهة تداعيات أزمة كورونا. ويمكن لهذه الإجراءات أن تتحقق مستفيدة من زيادة الإيرادات النفطية؛ الأمر الذي قد يخفف الضغط على احتياطي النقد الأجنبي؛ بما يوفر حيزًا ماليًا ضخمًا لاستخدامه في إجراءات التحفيز الكمي. وكذلك إيجاد آلية للاستفادة من حجم الودائع الضخم والمتوفر لدى البنوك (أكثر من 25.6 مليار ريال عماني في نهاية 2021)، من خلال أدوات وأوعية يستفيد المودعون والجميع من خلالها؛ كصكوك وسندات يُستفاد منها للظروف الطارئة، وتوفير التمويل للتحولات الإنتاجية المنشودة؛ حيث إنَّ من مصلحة القطاع المصرفي تقديم كل الحلول للبقاء وإنقاذ عملائه، وإيجاد عملاء جدد، وفي هذه المرحلة لا حاجة إلى التشدد المصرفي.

كما يجب أن تتزامن برامج التيسير الكمي- دون الإضرار بنسبة القروض غير العاملة- على تغيير معايير منح القروض والتسهيلات الائتمانية من معيار الرهونات المتوفرة من الأراضي والمباني إلى مدى نجاعة دراسات الجدوى المرفقة بطلب التمويل. وكذلك تغيير الثقافة السائدة والحاجة لغرس فكرٍ جديدٍ لدى العاملين في القطاع المصرفي، بأنهم صنّاع الاقتصاد والتنمية والمستقبل وأنهم ليسوا مُقرضين فقط، وهذا الأمر يتطلب أدوارًا أوسع وفهمًا أعمق للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية ورعاية العملاء بشكل مختلف، والفهم العميق لدراسات الجدوى وامتلاك قدرات تحليلية ومعرفة بالقطاعات الاقتصادية والأنشطة الممولة. ولذلك نتمنى أن نرى ضمن كوادر البنوك مهندسين متخصصين في الأمور الميكانيكية والهندسية والكهربائية والصناعية، ليتمكنوا من الفهم المتخصص للمشاريع المطروحة.

وهناك أمر مهم لتعزيز جهود التحفيز الاقتصادي يتمثل في الإعفاء لمدة 3 سنوات من رسوم الانتفاع من الأراضي لقيام الأنشطة الاقتصادية في المساحات الشاسعة للسلطنة وتخفيض رسوم بيع الأراضي وغيرها وتوسعة مظلة برنامج ضمان الصادرات بشكل كبير.

وفي سياق مكمِّل، هناك مصدر آخر مهم لضخ الأموال والاستثمارات والحصول على العملة الصعبة للاقتصاد العماني، يكمُن في تحقيق المزيد من الانفتاح للعالم الخارجي ووضع السلطنة على شاشة رادارات السياحة والاستثمار العالمي؛ حيث ما زالت تسهيلات التأشيرات وبيئة الأعمال في السلطنة تحتاج للمزيد من التحسين لأخذ نصيبها من الحصاد العالمي، فنحن في مجموعة صعبة، والتنافس محتدم، ويبقى التميز من نصيب أولئك القادرين على اقتناص الفرص واستشراف المستقبل بمختلف متغيراته.

وانسجامًا مع التغيرات العالمية وحالات عدم اليقين السائدة والأزمات المتكررة وتحقيقًا لأهداف رؤية المستقبل "عمان 2040" عامةً، وما يتصل منها بتعزيز دور القطاع الخاص على وجه الخصوص، وتمكينه ليقوم بالدور الرائد والرئيسي لتحقيق التنويع الاقتصادي وخلق فرص العمل ورفد الميزانية، يجب تبني برامج غير تقليدية أثبتت نجاعتها في الكثير من دول العالم كالذي حاولنا تلخيصه في سطور هذا المقال.

وختامًا.. إن الاقتصاد العُماني يمتلك ما يحتاجه من عدة وعتاد للانطلاق على مدرج التنمية المستدامة، ويبقى الأمر في تشغيل محركاته بالقطاعات المختلفة بالسرعة والأدوات المطلوبة. وبقي أن نقول.. يُحسب للبنك المركزي العماني والبنوك التجارية وشركات التمويل دورهم المُهم والمتميز في المرحلة السابقة، لكن في الوقت نفسه يتطلع الجميع إلى تحولات نوعية وابتكار تفرضه المرحلة لهذا القطاع المفصلي والذي بدونه لن يتحقق المأمول.