دور المجتمع

الأُمم الأَخلاق (13)

 

 

د. صالح الفهدي

أحالَ لي أحدُ الكُرماء الذين يتفضَّلون عليَّ بنشرِ بعضِ رسائلي في القيم رسالةً صوتية من أحد أصحابهم متفضلًا بالتعليقِ على مقطعٍ مرئي من "كلمة راس" وهو من جملة مقاطع قصيرة جدًا ذات محتوى قِيمي موجز يقولُ في رسالته: أتمنَّى أن تنتشرَ مثل هذه المقاطع كما تنتشر (الأشياء) السيئة، لأن ذلك يضبط أخلاقيات المجتمع وما يسوده حاليًا من زيفٍ في الأخلاق". (انتهت الرسالة).

هُنا أقولُ إن ذلك يعودُ إلى دور المجتمع؛ فالجهود الإصلاحية التي يقومُ بها فردٌ ما لن تكون بمثلِ ما يقوم به المجتمع أجمعه، وقد نشبِّه ذلك بسفينةٍ تعرَّضت وهي في وسط البحر إلى حدوث ثقبٍ فيها فتسرَّبَ منه الماء إليها، فإن لم يبادر الجميع للتعاون من أجلِ إصلاحِ ذلك التسرب غرقت السفينة بجميع من فيها.

كيف للمقاطعِ التافهة، أو التفاهات أن تنتشر في المجتمع؟ أليس عن طريق المجتمع ذاته؟ إذن هو القادرُ على ضبط سلوكياته نحو إيقاف الطالح، ونشر الصالح مما ينفع المجتمع، وهذا (الضبطُ) هو أحد أهم أدوات القيم التي كلَّما تعزَّزت في الأفراد أسهمت في تعزيز التفضيلات والإختيارات والإنتقاءات بين ما النافعِ والضار.

ينشرُ الأفرادُ مقاطعَ أو مواد مختلفة لدوافعَ مختلفة منها الإستخفاف، والإستهجان، والإمتعاظ ولكنهم مع ذلك ينشرونها، وقد كانوا يفعلون الخيرَ لو أنهم أهملوها وأعرضوا عنها، ولم يبدوا اهتمامًا نحوها، فكم من نكرةٍ، تافهِ المحتوى، لا يعرف الناس عنه شيئًا، تناقلوه بينهم زرايةً به، وامتعاظًا منه، فخدموهً بذلك في النشر من حيث كان يودُّ ذلك..! ولقد عَمدَ بعض المشهورين أكانوا من المسوِّقين التجاريين أو من التافهين في محتوياتهم أن يحدثوا مواقفَ مصطنعة كلَّما توقَّفت أعداد متابعيهم عن الإرتفاعِ، أو كلَّما حدثت لهم مواقفَ لاقت استنكارًا من متابعيهم، وبهذه المواقف المصطنعة ينسى الناس المواقف السابقة، وتتزايدُ المتابعات.

في المقابل.. فإنَّ دور المجتمع الحقيقي يكمنُ في نشر أو دعم المواد الصالحة وليس نشر ودعم المواد التوافه التي تجعلُ المجتمع "ضحلًا" و"سطحيًا"، وقد قُلتُ سابقًا" إذا أردت أن تتعرَّف على ثقافة مجتمع فانظر من يحظي بالشهرة فيها"، وكي يتحقَّق ذلك فإن على المجتمع أن يُدرك أن بقاؤه معتمدٌ على المبدأ الأخلاقي الذي كلَّما ازداد متانةً ورسوخًا استمدَّ منه المجتمع قوَّةً وتماسكًا، فالأُمم الأخلاقُ، بقاؤها وفناؤها مرهونٌ بها.

هكذا يرى المفكر مالك بن نبي أن العناصر المادية وغير المادية لا يمكنها أن تصنع حضارة دون وجود المبدأ الأخلاقي، الذي يعتبره ضرورة اجتماعية وشرطًا أساسيًا لأية نهضة، فالمبدأ الأخلاقي هو الذي يُكوِّن الضمير ويشكِّل المُثل العليا، ويكيِّف الغرائز ويهذِّب المصالح وينظِّم شبكات العلاقات الاجتماعية والثقافية.

إذن.. كُلَّما ترسَّخ الوعي بقيمة الأخلاق في المجتمع ازداد تمسُّكه بها، وغيرتهُ عليها، وصيانته لها، أمَّا أن ينظر إليها من باب الترف، أو الإستخفاف فإنَّه سيفقدُ القاعدة التي يقوم عليها، والمبدأ الذي ينهضُ به، وحينها سينشأ مجتمعًا مهلهلًا، ضعيفًا، مهزوزًا لا يقوى على تحمُّل الأزمات، ولا الثبات عند النكبات.

لا يكفي أن يندِّد المجتمع بالسلوكيات المشينة، ولا أن يستهجن التصرفات الشاذة، ولا أن يعلن نفوره من الأخلاقيات السيئة وإنَّما عليه أن يقومَ بعملٍ فاعلٍ إزاء ذلك، فكلُّ ما سبقَ إنما هو انفعالٌ عارض، وموقفٌ مؤقت، في حين أن الأعمال التي يقوم بها المجتمع تسهم بتوسعة الفعل الإيجابي في أوساطه، ولهذا لم يأتِ وصفُ الخير للأمة وحده وإنما ارتبط بالعمل في قوله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (آل عمران: 110).

وتأسيسًا على ذلك:

  • على المجتمع أن يساند كل عملٍ فيه صلاحُ أفراده، ورسوخ قيمه، بنشر الأعمال الصالحة فيه نشرًا دون تردد، أو تكاسل، أو تباطؤ.
  • على المجتمع أن يدعم جهدَ كل مصلح بكل ما يستطيع من إمكانات، حتى يقوى الجهد البسيط، ويكثر القليل، فالعربُ تقول:"المرء قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، شديد بأعوانه"، وما تهاوت المجتمعات إلا لأن أعضائها لم ينصروا جهد الفرد فيهم للإصلاح، في حين تركوا المنكر يستباح..!
  • على المجتمع أن يعلم أن الذئب يأكلُ الغنم القاصية فإن تفرَّقوا سيسهل القضاء عليهم، وهكذا كان ملوك الطوائف في آخر عهود الأندلسِ متفرقين متخاصمين حتى سَهُل على الغزو الصليبي أن يقضي عليهم ملكًا تِلو الآخر.

خلاصة القول.. إنَّ تماسك المجتمع ولحمته يشكِّل درعًا حصينًا أمام أيَّة تهديدات لأمن المجتمع، وتداعيات لقوته ووجوده، كما أن تكاثر المصلحون في المجتمع أمانٌ له من غضب اللهِ وهلاكه؛ يقول تعالى: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (هود: 117).