عنق أعزل!

فاطمة اليمانية

"العنقُ الأعزلُ لا يستطيع الانتصارَ على سكاكِين الجلّادين" محمد الماغوط.

 

***

حركت شفتيها تترنمُ بأغنية أصالة: "فقدتُ نفسي":

لَمْ يَكْذِب الليلُ حينَ الليلُ أخبرَنــي

أنَّ الذي غابَ دهرًا لَنْ يَعـُودَ غـدا

أَنَا كَرِهْتُكَ –لا أُخْفِيكَ- مِنْ زَمَـنٍ!

وصرتُ أكرهُ مِنْ كُرْهِي لكَ البَلَدَا!

شعرت بوخز في قلبها متأثّرة بسحر الصوت، وشجن الكلمات رغم أنّها لم تعش قصّة حب؛ بل كانت تنتظر "النصيب" وأن يطرق باب أهلها خاطب؛ فتزوجت بنات العائلة، وبقيت رابحة أسيرة الجدران، والانتظار.

وعندما همست في أذن قريبتها؛ لتبرر عنوستها:

  • أعتقد أنّي مسحورة!

نظرَت إليها ساخرة، وكادت تقول لها:

  • ومن الأحمق الذي سحرك؟

لكنّها ألجمت لسانها، وأشاحت وجهها ازدراءً سافرا لها!

شعرت رابحة بالضآلة! وابتلعت ريقها.. وتأمّلت وجوه الحاضرات وهنّ يتعاطَيْنَ الغيبةَ والنميمة والنكات الخليعة، ويتعاطفن مع بعضهن البعض عند الحديث عن أهل الزوج، والطرق الصحيحة في التصدّي لأمّ الزوج بطردها من المنزل أو استعبادها!

أخذت حقيبتها وغادرت.. غير آبهة بسؤال إحداهن لها:

  • إلى أين؟!

لتجيب زوجة شقيقها "سعاد" نيابة عنها:

  • إلى قصرها!

قالت قريبتها:

  • تدّعي أنّها مسحورة؟

فتعالت ضحكاتهن، وتراشقن التعليقات التي تؤكد بأنّ هذه العقول "المنافقة" تميز بين الحقيقة والوهم، لكن ثمّة وهم مُستّعذب حسبُ من يدّعيه!

وثمّة وهم منبوذ.. يتم قمعه حال التلّفظ به!

عادت رابحة إلى الجزء المتبقي لها من منزل والدها المرحوم.. إلى غرفة ومطبخ صغير بعد أن اقتطع شقيقها لها هذا الجزء المتواري خلف المنزل.. كان يقلّص المساحة وِفْقًا لحاجبي زوجته المرسومين في وجهها كقرني ثورٍ هائج!

قالت لهما:

  • أريد غرفتين.
  • لمن؟! لعمّار المنازل!
  • لمن يأتي لزيارتي من العائلة.
  • لا أحد يزور أحدا في هذا الزمن.

وهي لا تتذكر آخر مرّة ابتسمت فيها سعاد لها، كل ما هنالك وجه مشحون بالحقد، ونظرات متوترة بعينها الجاحظتين خوفا من أن يعطي زوجها شقيقته شيئا دون علمها..

كانت تقف على تفاصيل رسائله، وما يدخل جيبه من مال، ومن يهاتف من أقاربه..

تراقبه كالشرطي.. وإذا حدث أن أحضر شيئا لشقيقته، تسارع حال خروجه؛ لتقف على باب غرفتها مطالبة إياها بدفع المبلغ مهما كان تافها.

فتخرج رابحة محفظتها، وتناولها الريال وبعض الكسور..

كانت تسعى بكل ما تمتلك من جشع لقطع علاقتها بشقيقها؛ فتختلق قصصا لمشادات ومعارك لم تحدث، وتُغْرِقُ مسامعه بحكايات من خيالها تكون بطلة القصّة فيها أخته الشريرة الغيورة!

متناسية استغلالها المستمر لرابحة حين تطلب منها الإسراع في إعداد وليمة لصديقاتها اللّواتي سيحضرن فجأة! فتجد نفسها وسط المطبخ، ومعمعة الصحون! وتنسلّ سعاد كثعبان أملس للتأنّق والتهيؤ لاستقبال صديقاتها!

فتغرف رابحة طعام الغداء، وتجهز الأطباق والصواني، وكؤوس الشاي، وتبعد أبناء شقيقها عن الفرن والنار المشتعلة والأكواب الزجاجية! وتنتهي المهمة بمغادرة صديقات سعاد، ودخول شقيقها إلى المنزل مكفهر الوجه، مقطّب الجبين عابسا في وجهها، وعلى طرف لسانه كلمة:

  • غادري حالا!

لأنّ زوجته كانت تغرقه بالرسائل التي تصف فيها بشاعة رابحة؛ فسقوط صغيرها من الدرج؛ لاشتغالها بالضحك مع صديقاتها الذي كان بسبب رابحة! وتلك الضربة التي أدْمَت ظهر ابنها بعد أن اقترب منها جائعا؛ فصرخت في وجهه، وتناولت المِغْرَف لتهوي به على ظهره؛ كان أيضا بسبب رابحة التي لم تغادر المطبخ!

كانت سعاد تعاني من عقدة النقص، وتخشى أن يعود زمن استعبادها في منزل عائلتها؛ فهي الطاهية ومدبرة المنزل، والمسؤولة عن خدمة أهلها.

وازداد شعورها بالنقص عندما رفض ابن خالتها الزواج بها مزْدَرٍ بدانتها، وقال لوالدته عندما ذكرتها له أثناء البحث عن عروس:

  • مَنْ؟ سعاد الشّرِهِة؟!

تزوج ابن خالتها، وحضرت سعاد الزفاف وهي تمسح دموعها، ولفت بكاؤها الحاضرات؛ فافتضح أمرها، وظلّت طريحة الفراش طوال شهر من هول الصدمة؛ ولذلك قرّرت نسيانه بالموافقة على الزواج من أول خاطب لها.

ورغم زواجها، إلّا أنّها لم تنسَ ابن خالتها، ولم تنقطع زيارتها لعائلة خالتها رغبة في رؤيته، متأمّلة مجيء ذلك اليوم الذي يطلّق فيه زوجته، وتتخلص فيه من زوجها! لتتزوج بفتى أحلامها!

لذلك كانت تتعامل مع زوجها بتعالٍ، ولا تتحرج من الصراخ عليه أمام والدته وشقيقته، وعندما مرضت والدته ادّعت بأنّ المنزل مسكون، وبأنّها مصابة بجنّ يجعلها تكره المكان؛ وشجعته على استئجار منزل مجاور لمنزل خالتها؛ ظنّا منها أنّ زيارتها اليومية لعائلة خالتها قد يحنّن قلب ابن خالتها عليها! خاصّة وهي تذهب حاملة طبقا من طعام؛ ولم ترتدع إلّا بعد أن أغلقت زوجته الباب في وجهها صارخة:

  • اغربي عنّا!

ولم تكتَفِ بذلك؛ فأرسلت إلى زوجها:

  • ارْبَط بقرَتك!

فشعرت بالخزي، وعادت للسكن مرّة أخرى إلى منزل عائلة زوجها؛ وإلى نمطها المتهالك في ادّعاء المرض، والسحر والعجز عن إعداد كوب شاي، وكان دورها في منزل العائلة الخروج من غرفتها لالتهام الطعام، ثم الصراخ على زوجها ووالدته وشقيقته، ثم ضرب أحد أبنائها، والعودة إلى غرفتها!

وعندما توفت والدة زوجها، أصبحت رابحة قضيتها!

ونجحت في خلق فجوة بين الشقيقين، وعرفت رابحة يوما ما بعد أن كُسِرت الحنفية، وأغرقت المطبخ بالماء، أنّ شقيقها وضعها في قائمة الحظر!

فخدّرت نفسها بأكثر مقولة كُرِرِت على مسامعها وقت اقتسام الإرث:

  • شقيقك.. سندك في الحياة!

فمشت بتثاقل قاصدة القسم الآخر من المنزل؛ لتتفاجأ بباب حديدي يعوق عبورها بلا استئذان!

فاضطرت إلى الخروج من الباب الخلفي وقطعَت السكّة الضيقة؛ ووقفت أمام باب منزله كالغرباء، ليفتح لها شقيقها الباب مدهوشا:

  • رابحة!
  • حنفية المطبخ مكسورة.

طلب منها الدخول وتفاجأ بقفل على الباب، فاضطرّا إلى الخروج من باب المنزل الرئيسي، ثمّ اتّصل بالعامل؛ ليأتي لإصلاح الحنفية، ودفع بعض الريالات التي استعادتها زوجته في نفس الليلة حال مغادرته المنزل؛ ووقفت – كعادتها- على باب غرفتها:

  • أجرة العامل الذي صلّح الحنفية!

لم تدقق رابحة كثيرا في شعورها بالخيبة وهي تقيم في نفس المنزل، وبينها وبين شقيقها حواجز وجدران تلغي وجودها من حياته، وحياة أسرته!

لكنّ تلك الحواجز تتبخر في لحظة رغبة سعاد في الذهاب إلى التسوق، وتتحول رابحة من شيطان رجيم إلى ملاك من ملائكة الرحمة، وِفْقَا للمصلحة والاحتياج، وحالما يعودان يأخذان أطفالهما دون كلمة:

  •  شكرا!

وعندما تقدم لخطبة رابحة أرمل ستّينيّ، بعد أن سمع من بناته أنّها من ذلك النوع من النساء الوديع المطيع مكسور الجناح؛ اعترَضت سعاد قائلة:

  • أين سأضع أولادي إذا رغبنا في الخروج؟!

لكن سرعان ما انطفأ غضبها، وتبرعت بالموافقة عندما أدارت مشهدا في ذهنها عن وفاة العريس الثري، وحصول رابحة على إرثه، أو حصولها هي! فكل الطرق ستؤدي إلى جيب رابحة!

بل رقصت في عرسها البسيط، ولوت شفتيها مرارا متهكمة، وانتهى استعراضها بعد دخول العريس بقامته وعافيته حيث كان يبدو أصغر سنّا وأكثر حيوية مما كان يتبادر إلى ذهن سعاد.

جلس برهة وهو يستغفر الله..

ثم وقف يصلي على الرسول، ويدعو الحاضرات إلى الاحتشام، ويذكرهن بآداب الاحتفال على الطريقة الشرعية.

نظرت العروس إلى هيبة زوجها، وإلى طريقة كلامه وحزمه؛ فأثار امتعاض سعاد التي لاذت بالفرار رعبا كما يلوذ الشيطان من البسملة.

وانتهى الزفاف ليبدأ؛ واقعا جديدا لها حين استيقظت لصلاة الفجر، وحين رفعت يديها للدعاء، وحين أمسكت المصحف؛ مرتّلة بعض الآيات القرآنية.

وحين اكتشفت أنّ حياة التدين ما زالت قائمة، وما زال هنالك من يؤمن بالله، ويقيم العبادات، ويتشبث بالأذكار!

وحين أقبلت بناته وزوجات أبنائه؛ يباركن الزواج، وجلسن في هدوء وسلام بعيدا عن النفاق وتحوير الكلام وتحميله أكثر مما يحتمل؛ لإثارة الفتنة كما كانت تفعل سعاد!

وحين دخلت مطبخ العائلة الفسيح الذي كان يضم الجميع، وتخرج منه الولائم للضيوف، والجيران والفقراء؛ بلا أقفال، ولا كلمات سامة تحرق القلوب، وتوهنها!

وتلاشت التجاعيد التي كانت تملأ روحها؛ وهي تجتمع مع أحفاد زوجها الذين لم يتجاوزوا السابعة تعلمهم القرآن والأوراد والأدعية.

لكن أكثر ما أثّر في نفسها منذ زواجها..

رؤية أحد أبناء زوجها وهو يكلم شقيقته معتذرا لها؛ لأنّه لم يرد على اتّصالها، وبأنّه غضب من زوجته عندما لم توقظه من النوم!

تذكرت شقيقها الذي لم يكلف نفسه عناء السؤال عنها بعد زواجها؛ فضغطت زرّ الاتّصال، وانقطعت المكالمة؛ لأنّها ما زالت في قائمة:

  • الحظر!

 

(النهاية)