د. صالح الفهدي
إنفاذ الأَحكام في اليوم الواحد
تعدُّ البرزة من النظم العُمانية لإدارة شؤون النَّاس، والفصل في خصوماتهم، والبتِّ في دعاواهم؛ حيث يجتمعُ القاضي والوالي بصورة يومية معًا في برزة الحصون والقلاع للقضاء بين الناس في خلافاتهم، وقضاياهم المختلفة، ولعلَّ أهم مميِّزاتها إصدارُ الأحكامِ إما في اليومِ ذاته، أو في فترةٍ وجيزةٍ للمتخاصمين، حيث يشكِّل الوالي مرجعيَّة مدنية قانونيةً، بينما يشكِّل القاضي مرجعيَّة دينية فقهية، فيختصران على الناس -بالفصلِ السريع بينهم- مدَّة التقاضي التي تستدعي تكرار المجيء من مسافات بعيدةٍ، وأعباءٍ مضنية.
اختفت البرزة اليوم في الدولة المدنية الحديثة، لتغيُّر نُظم إدارة الشؤون السياسية للدولة العصرية، بيد أنَّه على رغم وجود الطرق المُمهدة والوسائل الميسِّرة للوصول إلى المحاكم أو الإدعاء العام أو مراكز الشرطة وهي الجهات التي تمتلك أيادي القانون إلاَّ أن كثرة القضايا الناشئة بسبب تمدُّد المجتمع، وتداخل تعاملاته، وتنوُّع مصالحه أدَّى بتطويل مدَّة الفصل في الأحكام، وقضاء مصالح الناس إلى درجة تفكير بعض أصحاب الحق في التغاضي عن حقوقهم، أو التنازل عنها فعليّا نظرًا لكثرة الإجراءات، وتعدُّد الجلسات، وطول فترة التقاضي.
على أنَّ بعض الدول قد لجأت إلى طُرق سريعة في اختصار مدَّة التقاضي خاصَّة في بعض القضايا التي لا تحتاجُ إلى شهود، وبيَّنات، ودلائل، وقرائن وغير ذلك مما يستدعي تقوية الحجج، وإسناد البراهين.
هُنا.. أتطرق إلى تجربة رائدة لدولة الإِمارات العربية المتحدة أطلقت عليها اسم "قضايا اليوم الواحد" التي تُقاربُ في شكلها وفاعليتها "البرزة"؛ حيثُ يوجد وكيل النيابة في مركز الشرطة، حين يقدِّم صاحبُ الدعوى دعواهُ في قضايا تم حصرها؛ ومنها على سبيل المثال: "إعطاء شيك بسوء نية، تظهير شيك بسوء نية والامتناع عن دفع ما استحق عليه من أجر"؛ إذ إنَّ قضايا الشيكات لا تحتاج إلى أدلة وبراهين فيما يتعلَّق بها، لهذا يمكن الفصلُ فيها خلال 24 ساعة، يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، إن "قضايا اليوم الواحد" تندرجُ ضمن المساعي التي تبذلها الحكومة لـ"إيجاد الأطر الكفيلة بتعزيز قدرة الحكومة على تقديم خدمات تتسم بالكفاءة والجودة العالية مع الحفاظ على عنصر السرعة حيث تتكامل تلك المميزات في تحقيق سعادة أفراد المجتمع وزيادة مستوى رضاهم عن الخدمات المقدمة في مختلف القطاعات بما في ذلك القطاع القضائي بما له من أهمية قصوى كونه يمثل حجر الزاوية في إقامة العدل في المجتمع".
فاعليَّة "قضايا اليوم الواحد" كبيرة على معدَّل القضايا التي تشملها خاصَّة الشيكات التي يعتبر القانون تحريرها بسوء نيَّة جريمة، وقد أثبتت في الواقع انخفاضًا ملحوظًا في القضايا بسبب البتِّ في حكمها خلال يومٍ واحدٍ مما شكَّل رادعًا للمتلاعبين بهذه الورقة القانونية، والمماطلين في حقوق النَّاس!
هناكَ أيضًا تجربة رائدة لإمارة رأس الخيمة وهي "محكمة اليوم الواحد" ذات الإختصاصات المحدَّدة حيث تصدر أحكامًا نهائية ونافذة في اليوم نفسه بنسبة 100%، في جميع القضايا التي سجلتها دون تأجيل أية قضية، أو أية طعون أو اعتراض على الحكم الصادر بحسب تصريح المستشار أحمد الخاطري رئيس دائرة المحاكم في الإمارة، واللافت أن 60% من شكاوى الخصوم في قضايا المدني والجزائي تذهب لمحكمة اليوم الواحد للبت فيها حسب إحصائيات العام 2021، حيث يؤكد المستشار أن 83% من أطراف الدعاوى أمام محاكم الدرجة الأولى راضون عن الحكم، دون الحاجة للطعون واستئناف الأحكام.
وللإمارةِ أيضًا تجربة ناجحة في القضاءِ هي "محكمة الجلسة الواحدة" حيث تختص بالنظر في الدعاوى المدنية والتجارية التي لا تزيد قيمة المطالبات فيها على نصف مليون درهم، ويتم تسجيل الدعاوي مباشرة وتجهيزها وإحالتها إلى المحكمة من مكتب إدارة الدعوى لتصدر فيها المحكمة الحكم بالجلسة الأولى المحددة لنظرها، وللخصوم في غير الأحوال المستثناة بنص القانون أن يستأنفوا أحكامها أمام محكمة الاستئناف المختصة.
خلاصةُ القول.. إنَّ سرعة البت في القضايا التي تمسُّ شؤون الناس ومصالحهم الخاصَّة لها أثرها على حركة المجتمع الاقتصادية، وعلى سرعة حركة التنمية فيه، وتخفيف المماطلات والتسويفات من المدعى عليهم لأصحاب الحق، حيث إنَّ وتيرة العصر المتسارعة تحتِّم سرعة البتِّ في القضايا والحزم في إصدار الأحكام فيها من أجلِ القضاء عليها أو التخفيف منها. وعلى ذلك، فإنَّ الأجهزة القانونية والقضائية يجب أن تساير الحركة السريعة للمتغيرات والقضايا التي تنشأ تبعًا لها، ولا ريب أن اختصار مدة التقاضي سيشجِّع على انخفاض الدعاوى، ودفع حركة الاقتصاد قُدمًا.