علي بن مسعود المعشني
Ali95312606@gmail.com
يتفنَّن الغرب الاستعماري في تحولاته وتشكلاته وأطواره للهيمنة والسيطرة على العالم، عبر تقمص أدوار ولبوس مختلفة يُباغت بها ضحاياه قبل تشكل وعيهم؛ لهذا نرى ونجد في تاريخ الاحتلالات عناوين وأدوات وأشكالًا مختلفة، كانت فيما مضى خشنة وغليظة، وأصبحت لاحقًا ناعمة، لكنها تحقق ذات الغرض، وهو الاستعمار وتكريس التفرد الغربي وخضوع الآخرين.
فقد عرفت البشرية المُعاصرة أشكالًا من الاحتلالات المباشرة في جغرافيات كثيرة، كان سيدها وراعيها الغرب الاستعماري، وعلى رأسهم إنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال، وبدرجات أقل كل من إيطاليا وبلجيكا، ثم تسيَّدت أمريكا المشهد، واختزلت الدور الغربي برمته، ونصَّبت نفسها شرطيًّا على العالم، وجهرت بالمعاصي إلى درجة الفجور.
وبعد أن وضعت الحرب الأوروبية (العالمية) أوزارها عام 1945م، كان هناك ما يُشبه الإجماع الغربي بوجهيه الاستعماري التقليدي والحديث، على ممارسة الاحتلالات بالقوة الناعمة وإخضاع العالم لما يُشبه "القضاء والقدر" الغربي، مُستغلين سطوتهم الصناعية وهيمنتهم الناعمة على مصادر الطاقة ومفردات التقنية الحديثة، والتي أصبحت من ضرورات العصر.
نَجَح الغرب في تسويق استعماره الجديد، والمتمثل في تكريس التبعية له، مستغلًا غياب الوعي وأدوات وسبل مقاومته؛ حيث سعى للاستيلاء على مقدرات الشعوب وربط مصيرها باقتصاداته ومفردات تنميته إلى درجة التشابه العضوي الذي لا يُمكن الانفكاك أو الاستغناء عنه بسهولة وبدون كلفة؛ حيث كان الثمن باهظًا وكارثيًّا لمن حاول مقاومة هيمنة الغرب والاستقلال بموارده واسترداد سيادته والتفرد بقراره بمعزل عن هيمنة الغرب واستعماره الجديد، والمتمثل في التبعية؛ فرأينا الدمار والخراب والحصارات والحروب الأهلية في جغرافيات كثيرة من العالم، عنوانها الأساس ومردها الخفي هو السعي لتحقيق الاستقلال الحقيقي الكامل عن الغرب، والتعامل بندية معه وفق قواعد العلاقات الدولية ونصوص القانون الدولي، ولكن كان للغرب رأي آخر في تلك المحاولات؛ حيث ربط مصير تلك الشعوب والبلدان عضويًّا بمصالحه وعملاته، وجعلها تروسًا في عجلات اقتصاداته؛ الأمر الذي لم يمنعه من بسط إجرامه في كل بقاع الأرض؛ تحقيقًا لمصالحه المتمثلة في تكريس التبعية أولًا وأخيرًا لديمومة سيادته وتفرده.
وفي أحدث صور الاستعمار اليوم، وأعنفها على الإطلاق رغم نعومتها الظاهرة، كان الاستعمار التقني، وتحفيز البلدان والشعوب على تملك التقنية والتحول الرقمي والحكومات الإلكترونية ومشتقاتها، وهذا التحول العصري الخطير الذي يجوب العالم اليوم، جعل منه روافد وامتدادًا طبيعيًا للغرب وتحت رحمته وسيطرته، إلا مَنْ رحم ربي وتنبه لهذا الفخ ونأى بنفسه، وابتكر لنفسه تقنية خاصة تحصنه من الاستعمار والاختراق والتبعية.
التقنية اليوم استباحت البلاد والعباد، وجعلت منهما كتبًا مفتوحة وبلا أسرار للغرب؛ حيث يمكن معرفة أدق التفاصيل الشخصية لكل من يقتني تقنية، ومن أي حجم ونوع، كما يمكن استباحة البلدان ومعرفة أدق تفاصيل تنميتها وأمنها القومي عبر هذه التقنية، وبأقل كلفة، وبعدد محدود من المختصين.
العالم بجُله اليوم بين خيارين كلاهما مُر.. إما خيار الهروب إلى الأمام ومواصلة المزيد من الانسياق والانغماس في امتلاك التقنية واستيرادها؛ وبالنتيجة يصبح مجرد رقم وعناوين فرعية في السياسة والتاريخ والجغرافيا. أو خيار المقاومة والاستقلالية بكلفة عالية وأثمان باهظة للحفاظ على كينونته وسيادته وأمنه وقراره.