ماجد المرهون
majidalmrhoon@gmail.com
القاعدة القانونية المعروفة تقول: "حُسن الظن لا يُلغي سوء التقدير"؛ لذلك يُصدم الكثير من الناس اليوم بسوء تقدير حسن ظنهم المبالغ فيه أحيانًا بالآخرين، في مسألةٍ أو موضوعٍ ما من أمور حياتنا المعتادة.
لا ريب أنَّ الأصل في تعاملنا هو الثقة، وافتراض حُسن الظن، ولكن قد ينعكس ذلك سلبا مع تشابك التعاملات وكثرتها، وبالذات المادية منها، ما لم يُصاحب هذه التعاملات نوعٌ من الحذر الواجب، والحرص، ولو في أقل درجاته؛ فهما الأساس الرئيس لحفظ الحقوق، وإنْ درء المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح.
مبدئيا.. فإنَّ الناس تتعامل بطرح أي موضوع وشرحه بشكله الشفهي التقليدي، فيثق المستمع بالمتحدث، ويفترضان بديهيا حُسن الظن ببعضهما لارتباط المصالح، وما إنْ يتم الاتفاق حتى تتحول الكلمة إلى صيغتها الصلبة القانونية الموثقة بكل ما يلزم من ضمان حقوق كل الأطراف، و"العقد شريعة المتعاقدين" هو السائد في معظم المجتمعات الواعية، ولكن أين ذلك كله من العالم الافتراضي والذكاء الاصطناعي؟!
كلُّ شيءٍ مادي في الوجود الملموس يعود لأصل واحد في نشأته، وأساس تكوينه، وهذا ما قاله الفيلسوف اليوناني الشهير لحد الملل فيما عرف تعريبا بـ"الهيولا"، وقد تكون فكرة ارسطو تأمُلية أو ربما لاهوتية بحسب السقف المعرفي المتاح آنذاك، لكن العلوم الحديثة ترجح بأن الجزيء العدمي تقريبا، والذي يقترب من اللاشيء هو أصل كل مادة.
إذا كانت القاعدة هي افتراض حسن الظن، فإنها قد تصبح شاذة مع التطور المخيف لعلوم التقنيات الحديثة والتي أفضت إلى الاستغناء عن التكاتب، خصوصا إذا كان الطرف الآخر المستفيد مجهولَ الهوية، وتمكن من زرع الثقة بطريقةٍ ما أو بشكل من الأشكال مع الطرف المستهدَف، علماً بأنَّ المستهدَف قد أقنعه حسن ظنه بالوجود الفعلي للطرف الآخر، وما يلبث الطرف المجهول حتى يعود جزيئًّا صِفريًّا، ويختفي وراء الحُجُب بعد تحقيق مصلحته ليظهر في مكانٍ آخر ويحقق حصادًا جديدا.
يقوم أحدهم، وبكل بساطة، بمشاركة عنوان إلكترونيّ (رابط)، وهو جاهل به، ودافعه في الأصل هو حسن النية وحب الخير ومشاركة الناس وعدم الاستِئثار بالثواب والأجر...إلخ من هذه المشاعر، فيرسله لمجموعةٍ كبيرةٍ من الناس، وبما أن افتراض حسن الظن حاضرٌ جداً، يقوم آخر بفتحه ثقةً بمن أرسله وفضولا في معرفة المحتوى.
لتبدأ هنا الطفرة التقنية بلعب دورها في الآفاق المظلمة ويبدأ الجزيء الصِفري بالتنقل بين موقعين وأكثر في نفس الوقت، وفي لا زمان ولا مكان؛ بحيث يكون زمن الإنشاء هو نفسه زمن الهدم، كما قال إبراهيم بن سيار النظَّام في تحليل نقل عرش بلقيس، ومع عمليات النقل الآني واللحظي للمعلومات والمحتويات الخاصة لأناسٍ أبرياء، ذنبهم الوحيد هو الثقة المطلقة وشيء من الفضول؛ يستمر صاحبنا ذو الجهالةِ بتحويل الروابط الإلكترونية والبرمجيات الخبيثة لأكبر عدد من الناس، وعلى نطاق واسع، ثم يرتاح قليلاً على رشفات الشاي بالزنجبيل، فيتمطى متعللاً بضعف الشبكة، وهو ينظر لمن حوله نظرة الخبير، وقد يُلقي كلمة هنا وأخرى هناك باعتبار أنه مُشارك ومتصل معهم واقعيا، ليعود ويتابع بقية مراسلاته المهمة مع وكالات الأنباء العالمية.
من المؤسف جدًّا أن لا يُدرك البعض أنهم قد أساؤوا للكثير من الناس بالنسخ وإعادة الإرسال دون أدنى درجة تحقق، ولا أعلم ما هي الضرورةُ الملحةُ عليهم بذلك الفعل، وكأن دورهم هو مصنع مجاني يقوم بتدوير النفايات في مواقع التواصل الاجتماعي، ليلوِّث بإنتاجه سمعة أصدقائه وزملائه، ويَضر بأبخرته السامة حالتهم النفسية والمادية والأسرية.
لم يَعُد حماية أمن المعلومات قَصْراً على المؤسسات الحكومية والخاصة، بل امتد على الصعيد الشخصي، وأميل هنا إلى البعد عن مبدأ الثقة وحسن الظن؛ حيث يقع الخطر عند تحول المعلومة الواقعية إلى افتراضية والعكس بين نزيه وخبيث.