ناصر أبو عون
في المقالة الفائتة عرَّجنا على أمكنة نزول الطائيين وخروجهم، وترحالهم، وأشرنا إلى رمزية المكان ودلالاته، وإحالاته في البنية التكوينية للشخصية الطائية، وانعكاسات الجغرافيا، والبيئة وتربتها على محيا الوجوه، وما انطبع في الصدور وتداولته الألسنة، وجادت به القرائح من إبداع وابتكار واستئناس بالعلوم والفنون ومطارحة الأفكار، وما تفتقت عنه القلوب من مواجيد ووجدانيات فياضة تدفقت بالحب والانتماء لهذه الأرض العمانية الطيبة التي لا تنبت إلا أصيلا، ولا تنبذ إلا دخيلا، ولا تؤاخي إلا سليل الأنساب المتأصلة، ولا تفتح ذراعيها بالترحاب إلا لكل مسالم نقي السريرة والأرومة.
وقبل التعرُّض لأنساب الطائيين وجب التنويه إلى حقيقة كطلعة الشمس في إشراقها أيام القيظ وهي أنّ الاشتغال بعلم الأنساب دليل على رفعة قدر النسّابة الحاذق، وشرف عظيم لا يدانيه إلا المتبحر الواثق، وحرمَ الله منه كل مداهن ومنافق، ولا يطاوله، ولا يُنادده فيه الباحثون في العلوم الأخرى؛ فهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه – كان صاحب الكعب الأعلى، واليد الطولى، والمقام الأسمى في المعرفة بأنساب العرب، ومن بعده ظهرت التصانيف الكبرى التي عكف عليها علماء من أشراف الناس؛ كأبي عبيدة، والبيهقي، وابن عبد البر، وابن هرم، وغيرهم.
ومن ثَمَّ، فإنَّ البحث في أنساب القبائل والعائلات؛ نعمة إلهية، ومنحة ربّانية تزينت بتيجان الشرف والرفعة؛ لأن غايتها عظيمة، وأهدافها تنطوي على مخزون من النبل المكنون في نفوس النسّابة العظماء، العالمين بأشراف العرب، وأصول القبائل بطونهم وأفخاذهم، وهذه الغاية المتحصلة تؤدي بالاشتغال بهذا العلم إلى طريق بيضاء نقية لا شعساء ولا غبراء تمهّد الوصول إلى الائتلاف، والتقارب والاتحاد بين جميع القبائل على اختلاف صورها، وتعدد ألسنتها، وتنوّع مشاربها، وتباين فطرة الله التي فطر الناس عليها. قال تعالى: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22]، وقد روى عبد الله بن يزيد مولى المنبعث أنه أخبره عن أبيه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (إن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - كان يقول: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر).
ولمن يسأل عن نسب الطائيين؟ نقول له: إنّ أبناء (الشيخ القاضي صالح بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف بن صالح بن محمد بن صالح بن سعيد بن علي بن أبي القاسم بن محمد بن سليمان بن سعد بن عبد الله بن ماجد بن سليمان بن سعد بن أبي علي بن محمد بن مصلح البوشري الطائيّ جذورًا وأرومةً وظهْرًا وبطنًا)؛ أما نسبته إلى قبيلة (البطاشيَّ) فهو انتسابٌ (حِلْفِيّ وليس نَسَبيّ) وهذا ما أكده الشيخ القاضي محمد البطاشي - رحمه الله - حين نفى نسبة بني بطاش لطيء وأكده الكثير من العارفين في الأنساب.
ففي سالف الزمان حطّت قافلة الجد الأكبر (الشيخ القاضي صالح بن عامر) في قرية (طيوي)، ثم خرج منها إلى (نزوى)؛ فلمّا سألوه: من أين؟ قال: أنا من طيويّ، فقالوا له: إذن أنت طيوانيّ. فعلقت به وبذريته هذه النسبة، وإنما هو طائيّ نسبا وصهرا.
ها هو الشيخ الشاعر صالح بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي (1932م – 1990م) أمّه كريمة العلامة القاضي الزاهد سعيد بن ناصر بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمد الكندي سعيد بن ناصر الكندية و [جدّه لأبيه هو (الشيخ القاضي سعيد بن عامر بن خلف البطاشي المسكدي)، وأخو جده هو (حمد بن سعيد بن عامر بن خلف العقريّ النزويّ)؛ كان حيًّا إلى سنة 1297 هـ وهو أحد رجال (دولة الإمام عزان بن قيس)، وعمُّه (الشيخ محمد بن عامر بن سعيد) مدرس (الإمام الخليليّ) علومَ النحو والعربيّة، ووالده (صالح بن عامر بن سعيد؛ قاضي مسقط.
أما عن هجرة أسرة الشاعر من (سمائل الفيحاء) إلى مسقط واستيطانها بقرية (بوشر) فيرجع الأمر إلى نبوغه ونضوج عقله الفقهيّ، حيث عبّ قلبه من معين الفقهاء الأوائل، واستضوأ فكره بأنوار الأقطاب الإباضية الأماجد، وأَشْرَبَ روحه الحَييّة من بحرالأحكام الشرعية للشيخ العلامة (حمد بن عبيد السُّليْمي)، واستبصر على يديه فنون السياسة والدهاء، وتمثّل به في أحكام الشريعة والإفتاء؛ فجمع في شخصيته بين الفقه والشعر وعلم القضاء، واستوقد ذُبالة المجاهدة من جذوة الانتصارات العمانية في ذبِّ الأجنبيّ وطرده فاستعرت روحه الوطنية التواقة إلى الريادة والعطاء فكان جديرا بأن يكون الساعد الأيمن لأستاذه السليميّ الأيمن في أعمال القضاء.
فلما أجاد وعلا في العلم نجمه، وارتفع بالإيمان والتقوى قدره، صار مساعدًا للقضاة بمحكمة مسقط، ثم اعتلى منصة القضاء في ولاية مطرح، وانتهى بها المآل أنْ نصّبه السلطان سعيد بن تيمور (قاضيا للقضاة)، وأنعم عليه بالعطايا؛ فأهداه (بيت الفوق)، و(مزرعة سيبا المال) في قرية (بوشر)، فدانت له الدنيا واستقرّت به الحال، وأعقّبت له عقيلته الفاضلة خديجة بنت العلامة سعيد بن ناصر الكندي ثلاثة أولاد هم (حمود وهاشم وصالح)، ووهبه الله حمد، ورُقية من قرينته [ثريا الطائية]، وذراريهم الذين ملأوا الدنيا علما ونورا، ولفّت سيرتهم الحسنة الآفاق.
ومن الملاحظ ومما مرّ علينا من أدلة أن بداية ظهور الطائيين في (التاريخ العمانيّ المدوّن)؛ كانت مع بداية خروج جدهم الأكبر مع بداية دولة اليعاربة، وأن أقدم اسم مدوّن في الوثائق لهذه العائلة هو (علي بن سعيد بن علي الطيوانيّ) وأظهرت الوثائق المتداولة أنّه طلب على نفقته الخاصة نسخ الجزء السادس والعشرين من كتاب: (بيان الشرع) سنة 1078 هجرية، وهو الذي ذكره محمد بن عبد الله السيفيّ في كتابه(السلوى في تاريخ نزوى ط:1). وهو من مشايخ القرن الحادي عشر الهجريّ الموافق الخامس عشر الميلادي.
وأنّ والد الشيخ أحمد سليمان بن عبد الله الطيوانيّ من علماء دولة اليعاربة، وهو من رجال دولة الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربيّ والذي بويع بالإمامة عام 1050 هجرية الموافق 1640 للميلاد ومن المتبادر أنه أخ للأول، وذكره أيضا السيفيّ صاحب كتاب السلوى، وذكر الشيخ سف بن حمود البطاشيّ – رحمه الله – في كتابه: (إتحاف الأعيان في تأريخ بعض علماء عمان)، وجاء ذكره في السيرة التي كتبها بخط يده للشيخ حمد بن عيسى الطائي.
* استقصاء: سلمى البطاشية