فى الذكرى السبعين: كيف أدركت ثورة يوليو قضية فلسطين؟

د. رفعت سيد أحمد

لم يعرف التاريخ الإنساني -على تعدُّد قضاياه- قضية بمثل هذا الطول والعمق والتعقد: "قضية فلسطين" التي اختلطت فيها الأماني القومية بالحدود الجغرافية، ومشاعر الثورة بعجز القدرة والإمكانية، واختلطت فيها الأدوار الإقليمية بتفاعلات القوى وتوازنات الإطار الدولي، فى منظومة متداخلة لا نكاد نعبر إحدى حلقاتها حتى تواجهنا أخرى أشد إيلامًا وأكثر تعقيدًا.

ولأننا نعيش اليوم الذكرى السبعين لثورة يوليو ونعيش معها التطورات الساخنة والمتلاحقة لقضية فلسطين بعدما سمّي بثورات الربيع العربي والتي لم تكن كلها ثورات حقيقية بل مؤامرات وخطط داعشية وخارجية لتفكيك الدول المركزية في المنطقة، تماما كما جرى في سوريا! كيف أدركت الثورة من خلال قائدها (عبدالناصر) طبيعة هذه القضية وطبيعة الصراع حولها؟ وكيف تعاملت معها؟.. ذلك ما نحاول أن نجيب عنه في هذه السطور.

 

أولا: مدركات ثورة يوليو لطبيعة القضية الفلسطينية

يُمكن بلورة مدركات ثورة يوليو لطبيعة القضية الفلسطينية والصراع حولها وبعد متابعة لوثائق الثورة المختلفة، حول ثلاثة مستويات أدركت من خلالها الثورة هذه القضية:

- المستوى الأول: أن القضية قضية مصيرية وأن الصراع حولها صراع مصيري بالأساس.

- المستوى الثاني: أنه صراع قومي.

- المستوى الثالث: أنه صراع حضاري. فماذا عن هذه المستويات؟

 

المستوى الأول: مصيرية الصراع

تجمع وثائق الثورة وتحديدا وثائق عبدالناصر، على أن هذا الصراع الذى تجري أحداثه فوق أرض فلسطين، كان ولا يزال، صراع وجود، صراع بقاء بين الأمة العربية من جانب وقوى الاستعمار من جانب آخر.

يقول عبدالناصر: "إن الأرضية الأصلية وراء الصراع العربى الإسرائيلي هي في الواقع -على وجه الدقة- أرضية التناقض بين الأمة العربية الراغبة في التحرر السياسي والاجتماعي وبين الاستعمار الراغب في السيطرة وفي مواصلة الاستغلال"، "وفيما مضى فلقد كان سلاح الاستعمار ضد الأمة العربية هو سلاح التمزق، وبعد حربين عالميتين ومع تعاظم الإيمان بالوحدة العربية فلقد لجأ الاستعمار إلى إضافة سلاح التخويف إلى سلاح التمزيق"، وكان أن استغل فى ذلك الدعاوى الأسطورية للحركة "الصهيونية"، وهكذا سلم وطنًا من أوطان الأمة العربية غنيمة مستباحة للعنصرية الصهيونية المدججة بالسلاح لكي يتم تكريس وتمزيق الأمة العربية أو ليتحقق تخويفها باستمرار عن طريق إيجاد قاعدة فى قلبها لتهديدها فضلا عما يتبع ذلك من استنزاف كل إمكانيات القوة العربية فى صراع محكوم فيه تاريخيا. "ولقد زاد من حدة التناقض بين الأمة العربية والاستعمار ظهور الحركة التقدمية العربية بقيادة الفلاحين والعمال العرب الأمر الذى دفع الاستعمار إلى مغامرات عنيفة ومخيفة عَبَّرت عن نفسها سنة 1956-1967 والتي عرفت بحرب الأيام الستة التي هي في الواقع مقدمة لحرب لم تنته حتى الآن"، - والقول لعبدالناصر- هذه هي أرضية الصراع العربي - الإسرائيلي التي هي في الواقع "أرضية التناقض بين آمال الأمة العربية وحقوقها المشروعة بين أطماع الاستعمار ومخططاته ومؤامراته" وكأن عبدالناصر يقرأ بهذا التحليل المستقبل العربي محددا حقيقة وجوهر القضية الفلسطينية: هي قضية مصير.

 

المستوى الثانى: قومية الصراع

عندما حوصرت القوات الفلسطينية شهور يونيو ويوليو وأغسطس 1982 داخل بيروت وأسقطت إسرائيل عليها ما يقرب من المليون قنبلة، وشنت المئات من الغارات (فى يوم 12 أغسطس 1982 شنت إسرائيل 220 غارة، وأسقطت 44 ألف قنبلة خلال 11 ساعة فقط) وعندما اكتملت صورة الهزيمة العربية فى 17 مايو 1983 بتوقيع الاتفاق اللبناني الإسرائيلي، وعندما اكتمل المشروع الصهيوني -أو كاد- داخل الضفة الغربية وقطاع غزة وبالجولان ولبنان، عندما حدث كل هذا.. كانت الأنظمة العربية على امتداد الوطن، ترفع مقولة خطيرة، وهى أن القضية، قضية فلسطينية بالأساس وفقط وليست قضية عربية هنا آتت أدبيات ثورة يوليو لتقدم لنا نموذجا مختلفا، فبالإضافة إلى مصيريته، هو صراع قومي، صراع بين أمة عربية ذات أهداف وطموحات مشروعة من الدولة الصهيونية والاستعمار العالمي، وأن القضية لم تكن قضية أبناء فلسطين فحسب، وإن كانوا هم الطليعة والمقدمة فى عملية المواجهة السياسية والعسكرية مع إسرائيل، فالقضية قضية كل أقطار الوطن العربى، وهنا يقول عبدالناصر (إن أي عدوان على العالم العربي، يعتبر عدوانا على كل بلد عربي، ونحن باعتبارنا الجمهورية العربية المتحدة التي أخذت على نفسها واجب الطليعة في هذا لن نتخلى عن هذا الواجب) ويرى (أن سقوط أي بلد عربي إنما يكون دائما هو البداية لسقوط باقي البلاد العربية، وإسرائيل تدرك هذه الحقيقة ومن ثَمَّ فهي تقف ضد الوحدة العربية مفهوما وسلوكا) و(كانت إسرائيل أيضا تعادي الوحدة بل كانت إسرائيل تعادي وحدة الكلمة بين العرب. كانت إسرائيل تحاول أن تفرق بين العرب، حتى تستطيع أن تهاجم في الشمال وتجمد في الجنوب، أو تهاجم في الغرب وتجمد في الشرق) وفقا لنص كلماته ومواقفه المشهودة طيلة الفترة من 1952-1970.

 

المستوى الثالث: حضارية الصراع

لقد أكسبت ثورة يوليو القضية الفلسطينية سمة هامة أثبتت التطورات الأخيرة التي تعيشها قصة الصراع اليوم صحتها، تلك هي طبيعة الصراع الحضارية؛ حيث الصراع مع إسرائيل ليس فقط مع مجموعة من الجماعات الصهيونية القادمة من أوروبا والأمريكتين ولكنه صراع مع "الجذور" التي تنتمي إليها هذه الجماعات وهي الجذور التي تُشكَّل الوجه الحقيقي للصهيونية السياسية، وحيث تمتد هذه الجذور لتصل إلى الجوانب العنصرية في الحضارة الغربية، وإلى الطبيعة الأنانية والفردية التي مَيَّزت نظرتها إلى الإنسان العربي فهو لديها دائما "متخلف" دائما "مهزوم" دائما "همجي" دائما "التابع غير المتحضر" والذي في حاجة إلى من يقوده ويؤكد لديه هذا الواقع، مع دائمية أن يظل فى إطار دور "التابع".

لقد أدرك عبدالناصر هذه الحقيقة، وأدرك ما تعنيه من دلالات هامة، تمثلت في حتمية أن يظل الغرب فنراه يقول "إن إسرائيل تقوم فى خدمة الإمبريالية والاستعمار بدور القاعدة وبدور المخفر الأمامي، وبدور العازل الذى يحول دون وحدة الأمة العربية، ويهددها كلما تحركت، وبدور الإدارة التي تشتت تركيزها على المستقبل وتمتص طاقاتها بالاستنزاف أولا بأول، ولقد باعت الصهيونية نفسها للاستعمار الذي كان يسيطر على العالم العربي، وربما لم يكن الأمر يحتاج إلى وقفة جديدة فإن الصهيونية العنصرية بحكم طبيعتها الرجعية تقف منطقيا على الجانب المعادي للحرية.

ويرى عبدالناصر أيضا "أن الاستعمار قد سلك فى سبيل ذلك كل الوسائل الخبيئة والخبيثة، فهو لم يكتف بأن يكون له عملاء يتسترون بالوجوه الوطنية ليكونوا أكثر فاعلية في خدمته، وإنما أقام لنفسه بين الدول العربية دولة عميلة تتكلم باسمه، وتسير على نهجه وتكون رأس جسر لأغراضه، وحربة في قلب قارتنا تسعى للسيطرة بما تقدمه من قروض واستثمارات لتسيطر على اقتصادياتها بالاحتكارات الاستعمارية".ويؤكد ما يعنيه أكثر حين يقول "حينما نعالج قضية فلسطين لا يمكن أن نتصور أننا نعالج قضية سهلة، إنها قضية إسرائيل ومن وراءها، وهي بوضوح أكثر قضية أمريكا".

من هذا العرض السابق يتضح لنا كيف أدركت ثورة يوليو طبيعة الصراع في فلسطين.

 

ثانيا: ثورة يوليو ومستويات إدارة الصراع

من خلال خبرة الصدام مع إسرائيل وأمريكا وقوى ما كان يُسمى أيام عبدالناصر بـ"الرجعية العربية"، من خلال الصدام مع هؤلاء الذين أسماهم عبدالناصر بأطراف الصراع تَشكَّلت عند ثورة يوليو على المستويين الفكري والحركي قناعة مؤداها أن عملية إدارة الصراع العربي الصهيوني عملية معقدة، وأن تَعقُّد هذه العملية يعني وجود عدة مستويات في إدارتها، وهذه المستويات متداخلة ومتصلة ولا يمكن فهم إحداها دونما فهم ما سبقها.

ويقول عبدالناصر محددا هذه المستويات "إننا نخوض معركة معقدة متشابكة تجري على أرض وعرة متفجرة، وليس هناك طريق واحد نستطيع أن نسلكه لتحقيق أهداف أمتنا العربية وإنما هناك طرق متعددة نحو هذه الأهداف واستعدادنا لاستعادة أراضينا الضائعة بالقوة لا يمكن أن يُعطِّل عملنا السياسي لاستعادة ما ضاع منا.. إن الاستعداد بإمكانيات القتال لا ينبغى أن يعطل استعدادنا بإمكانيات السياسة".. ولكن عبدالناصر رغم ذلك لم يقل إن هذه الحرب هى "آخر الحروب" تحت دعاوى السلام كما قال خلفه أنور السادات ولكنه قال وفي الخطاب نفسه السابق "ولكن الخطر أن نجعل الاستعداد للسياسة يعطل الاستعداد للقتال، ذلك أنه في نهاية المطاف تبقى حقيقة واحدة على ساحة الشرق الأوسط، حقيقة لا شريك لها ولا بديل وهي ضرورة استعادة أرضنا وتطهيرها إلى آخر شبر تطهيرا كاملا ونهائيا".

إن مستويات إدارة الصراع عند قائد يوليو تتدرج من: المستوى السياسى بتنويعاته المختلفة: الدبلوماسية، الإعلام، الدعاية، الثقافة فالمستوى الاقتصادي كالمقاطعة الاقتصادية، فالمستوى العسكري. ولقد اتضحت هذه الخبرة في إدارة الصراع فى مرحلتين هامتين من تاريخ الثورة:

- الأولى: وتمثلت أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حين أدار عبدالناصر الصراع داخليا من فوق منبر الأزهر وفي بورسعيد بحرب شعبية رائدة، وخارجيا من خلال تحفيز الدور السوفييتى للضغط على أمريكا، وقد أحدث ذلك كله نتائج إيجابية.

- الثانية: بعد هزيمة 1967 حين أعاد عبدالناصر تكتيكاته السياسية والعسكرية وأشعل أخطر حرب شنت ضد إسرائيل وأحدثت أضرارا مباشرة في اقتصادها، حرب الاستنزاف 68 - 1970 وحين أعاد عبدالناصر تنظيم علاقاته العربية والدولية تمهيدا للجولة القادمة والتي أعد لها جيشه وشعبه إعدادا قادرا كان من شأنه أن يحدث انتصار أكتوبر1973 الذي كان الثمرة الحقيقية لإنجاز عبدالناصر بعد العام 1967، ومن خلال هاتين المرحلتين يأتي التأكيد العملي على عمق إدراك ثورة يوليو لطبيعة الصراع ولأطرافه وهو الإدراك الذي دفعها من ناحية أخرى إلى حماية ثورة الشعب الفلسطيني ودعم نضاله بكل أشكال الدعم التي حفظتها الوثائق التاريخية لثورة يوليو بقيادة عبدالناصر.. *واليوم وفي الذكري السبعين لهذه الثورة؛ نحسب أننا مطالبون كنخب عربية حاكمة أو خارج إطار الحكم، مطالبون بالدعم الواسع لأبناء فلسطين في قضية هي الاطول والأعقد والأعدل عبر تاريخنا الطويل...وعندما ندعم أهل فلسطين فإنما ندعم أنفسنا بالأساس وهذا جوهر ما فهمته ثورة يوليو وما عبرت عنه بصدق،مواقفها ووثائقها.

والله أعلم.