أو.. يسكنون في الحجاز!

◄ تذكرتُ هذه الذكريات مع هؤلاء الطيبين عندما كنت أقرأ عن هجرات الآلاف أو قل الملايين الهاربين من نار الحروب وغلو الحياة إلى بلاد بعيدة جدا.

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"لا توجد غربة على كوكب الأرض.. كل ما هناك مسافات، مجرد مسافات".

عمر طاهر

 

أذكُر منذ فترة طويلة جلستُ مع أحد زملاء العمل، وهو رجل كبير بالسن، وينتمي لبلد عربي، وكنَّا نتناول حوارات حول أي شيء وكل شيء، ومما أتذكَّره أنَّ أمنيته أن يسكن الحجاز؛ إذ يقصد أن يسكن في مكة المكرمة أو المدينة المنورة، سألته: ما السبب؟ قال: "يا بُني الدنيا محدش واخد منها حاجة، الواحد أهم حاجة عنده رضا ربنا، ومفيش أحسن من السكن عند الكعبة شرفها الله، أو بجوار النبي صلى الله عليه وسلم". لم تكن أمنيته جمع ثروة لبناء قصر منيف، أو من ملذات الدنيا، لكنه كان يبحث عن سعادة الدارين وجمع الدنيا بالآخرة، وكنت أتفكَّر في أمنيته وكيف وهو الإنسان البسيط جدًا "الذي لم ينل قدرا -حتى قليلا- من التعليم" أن يُفكر بهذه الطريقة التي لا أظن أنَّ الخبراء الإستراتيجيين أو علماء الدنيا أو حاملي المسميات والمؤهلات العالية قد فكروا أو وصلوا للفكر الذي يفكر.. فعلا "لله في خلقه شؤون".

كنت أُنَاظِره وهو يتحدَّث بتأثر، ويتمنَّى آخر عهده بالدنيا في الحجاز كما قال، رغم أنَّ مظهره ليس بمظهر الملتزم دينيًا، لكنها الفطرة التي جبل الله عليها عباده.. مضى أكثر من عقدين على هذه الحوارات الشيقة، ولا أعلم أين مضت وسارت به الدنيا، وأسأل الله له الرحمة حيًّا أو ميتا.

بعد هذا الحوار، كُنت عندما ألتقيه دائماً، أقول له: "الله يحقق أمنيتك وتسكن الحجاز"، وكان يبتسم ويضحك. وكان أحد الزملاء ممن يُزاملنا العمل وهو من نفس بلد الحجازي -كما أسميناه- يتمنَّى أن يسكن مدينة الإسكندرية، من الحديث معه تجده يتحدث بتأثُّر المشتاق عن هذه المدينة الساحلية ذات التاريخ العريق.

أحد زملائنا هو الآخر كان يحب المداعبة، وإضفاء جو من الفرح والابتسامة؛ حيث كان يصف الزميلين والوضع بالعمل بشكل عام: "إحنا زمايلنا يا يسكنون في الإسكندرية، أو يسكنون في الحجاز"!!

تذكرتُ هذه الذكريات الجميلة مع هؤلاء الطيبين الذين ما زلتُ أذكرهم بكل خير، عندما قرأت عن الهجرات المتتالية لآلاف أو قُل ملايين الهاربين من نار الحروب وغلو الحياة إلى بلاد بعيدة جدًا تبعد آلاف الأميال، يُواجهون أمامها وخلالها شتى أنواع المصاعب والعوائق والعراقيل؛ حيث البحث عن الأمان والذات والحياة المستقرة، تلك الأمور التي استعصتها الأيام وظروفها في بلادهم، أصبح الهدف مدينة كذا الأوروبية، أو المدينة العلانية، أو في تلك البلاد الإسكندنافية، وهلُمَّ جرا من بلدان ومدن قطعًا ليس من بينها الحجاز أو الإسكندرية.

قرأتُ عبارة للروائي المصري بهاء طاهر وهي: "ربما بعد الغياب الطويل في الغربة لا يعود للإنسان في الحقيقة أي بلد"، أعتقد أنَّ الأستاذ بهاء كان صادماً في تركيب العبارة، وقاسياً في الصيغة المعنوية، صحيح قد تكون هناك أجزاء كبيرة من الصحة بها، لكنَّني بضغط من العاطفة العاقلة أجد أنني لا أتقبلها؛ فالإنسان بطبيعته يكون منتميًا لنشأته الأولى (مسقط الرأس، الأرض التي عاش بها بداياته)، وحتى لو ارتاح لمكان آخر، سيظل رهينة انتمائه الأول، وإن كان الرهن نفسياً على الأقل.

الولاءُ والحنينُ دائمًا يكونان للأرض التي يُولد عليها الإنسان.. ومن الأمثلة عليها: أتذكر أحد الأفلام الوثائقية عن الحرب العالمية أوائل القرن الماضي، أن أحد الضباط الألمان أُمِر بقصف مدينة نمساوية ونفذ الأوامر العسكرية وقَصَف المدينة، إنما المفارقة أنه طُلِب منه أن يقصف مكاناً آخر ورفض الضابط قصفه؛ لأنَّ المكان المراد قصفه كان مقر الجامعة التي درس بها الضابط حين كان طالباً جامعياً؛ لذلك لم يستطع التغلب على عاطفته، وأن يتعدى الوفاء والحنين لمباني ومقرات هذه الجامعة التي مازالت ذكراها حيَّة بخاطره، ولا يزال اشتياقه لممراتها وقاعاتها الدراسية، لهذا رفض تدمير المكان الذي كان له ذكرى فيه، ولا أعلم هل كان منطلقه من العاطفة أو الوفاء، وبالطبع لا أعلم بقية القصة وما الذي جرى معه.

مُفارقات عدة نُواجهها في الحياة، منها الغريب والأكثر غرابة، ومنها حتى اللا معقول، تمعَّنت بمن يسافر لبلد من أجل لقمة العيش وتحقيق مستوى معيشي أفضل، وبنفس الوقت تأخذه الأمنيات بأن يسكن بمكان آخر، إلى أن توافيه المنية بمدينة أخرى، لا هي في بلده الأصلي، ولا هي في البلد الذي اغترب به من أجل العمل، فعلا "لله في خلقه شؤون"، وللحياة شجون، ولمشاعر البشر آذان وعيون، وأيام تمضي، وأيام نعيشها، وأيام لا نعلم إلى أي طريق ستذهب بنا.. أسأل الله الخير لي وللجميع.