المواطنة في السياسات الوطنية

◄ المواطنة في السلطنة ركيزة أساسية لبناء المجتمع.. وتهدف السياسة العامة للدولة إلى بناء المواطن المسؤول المشارك بفعالية في تحقيق التنمية الشاملة

د.بدرية بنت ناصر الوهيبية 

 

أصبحت المُواطنة من القضايا والثوابت الثقافية في أي مجتمع، والتي تفرض نفسها عند مُعالجة أي بُعد من أبعاد التنمية الإنسانية ومشروعات التطوير والتنمية المستدامة، والمواطنة بمفهومها الواسع تعني الصلة والعلاقة بين الفرد والدولة التي يُقيم فيها، ويرتبط بها جغرافياً وتاريخيًا وثقافيًا؛ وينظم هذه العلاقة مجموعة من التشريعات والقوانين، وتعززها قيم المواطنة المبنية على الاحترام والعدالة والتمكين والتسامح والتعايش والتكافل الاجتماعي، والمسؤولية الوطنية في خدمة الوطن.

وأوضحت بعض الدراسات أنَّ مفهوم المواطنة مفهوم مُتعدد الأبعاد: الثقافية، والاجتماعية، والسياسية والإنسانية، ويتحدَّد بثوابت ومبادئ أساسة تشكل في مجملها عزة الوطن مثل الحقوق الدستورية والقانونية في مختلف نواحي الحياة؛ فالمواطنة تسعى للنهوض بقيم العزة وحب الوطن والتفاني حفاظًا عليه؛ وبذلك فإنَّ أهمية المُواطنة تكمن في تنمية الشعور بالانتماء للوطن والاعتزاز به، وعمل الواجب تجاهه، وغرس حب التعاون بين أفراد المجتمع واحترام النظم والقوانين، وتتمثل أبرز عناصر المواطنة ومكوناتها في المشاركة المجتمعية والمشاركة في الأعمال التطوعية والخيرية بشتى أبعادها، وحس المسؤولية الاجتماعية المشتركة في تحقيق رفعة الوطن وتقدمه.

وفيما يتعلق بتعزيز المواطنة في السياسات والتشريعات؛ فاستناداً إلى المبدأ الثقافي الذي أرساه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم في المادة (16) من النّظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (6/2021)، حيث نصَّت المادة على أنّ: "التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية العمانية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير، وتنمية المواهب، وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح والتآلف. وتضمنت المادة نفسها أن "تكفل الدولة حرية الإبداع الفكري، ورعاية المبدعين، وتشجع على النّهوض بالفنون والآداب" بالإضافة إلى منطلقات المبادئ السياسية والاجتماعية في مواد النظام الأساسي للدولة التي أوضحت أهمية حرية الرأي والتعبير والمشاركة السياسية للمواطنين، وتحقيق العدالة، والمساواة، والتمكين، وحث المجتمع على التكافل الاجتماعي والتعاون.

لذلك؛ نجد أنَّ المواطنة في السلطنة تعد ركيزة أساسية لبناء المجتمع من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وتهدف السياسة العامة للدولة إلى ترسيخ قيم المواطنة وبناء المواطن المسؤول المشارك بفعالية في تحقيق التنمية الشاملة، فتضمنت رؤية "عمان 2040" أولوية المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية، فضلاً عن الاهتمام بالتعليم والتعلم والبحث العلمي، وبناء القدرات الوطنية القادرة على العمل والعطاء، وبناء الإنسان وتوفير حقوقه الوطنية كافة من أجل بناء المواطنة المسؤولة.

ومن حيث السياسات والإجراءات لتحقيق "الهدف الإستراتيجي: مجتمع معتز بهويته وثقافته وملتزم بمواطنته" في أولوية التعليم والتعلم والبحث العلمي والقدرات الوطنية نجده يتكامل مع تحقيق أهداف أولوية المواطنة والهوية في تفعيل برامج خاصة لتطوير المنظومة التعليمية وتحسين مخرجاتها لبناء الإنسان العماني الواثق من هويته، المتمسك بقيمه الاجتماعية، وذلك من خلال التركيز على جودة مخرجات قطاع التعليم، وتأهيلهم لدخول سوق العمل المحلي والعالمي بقدرات وإمكانات ومهارات تنافسية لبناء اقتصاد مبني على المعرفة، وتعزيز العلاقة التشاركية بين القطاعين الحكومي والخاص، وتمكين الوسائط التعليمية بالتقنيات الحديثة، وباعتماد معايير تقييم عالمية.

لذلك؛ استندتْ فلسفة التعليم على تعزيز المواطنة من خلال مجموعة من المنطلقات، كالدین الإسلامي، والنّظام الأساسي للدولة، والتشريعات الوطنية والقوانين، واللغة العربية، والموروث العماني، وأعراف المجتمع العماني، والفكر السامي لجلالة السلطان. وتعد هذه الوثيقة المرجعية الفكرية والنظرية للعملية التعليمية، وقد تضمنت عناصر المواطنة التي تمثلت في: القيم والأخلاق، والتربية الاجتماعية، وبناء المسؤولية وقيم المشاركة المجتمعية والوطنية، والقيام، بالواجبات الوطنية، والشعور الوطني بالدفاع عن الوطن وحماية مكتسباته، وحق الفرد في المشاركة السياسية والمجتمعية، وبناء الوعي الاستهلاكي للمواطنين، وبناء الرغبة في العمل المهني بمختلف أشكاله، إضافة إلى وجود الإستراتيجية الوطنية للتعليم 2040، والتي بنت رؤيتها على ستة مكونات؛ هي: الحفاظ على الثقافة العربية الإسلامية، وتعزيز الهوية الوطنية، وتنويع مسارات التعليم، ودعم قدرات البحث العلمي، والإبداع والابتكار، والارتقاء بأخلاقيات العمل، والفاعلية في عصر المعرفة.

وبناءً على هذه المنطلقات، تسعى السلطنة إلى إيجاد مخرجات وطنية مُؤهلة للمُشاركة في الحياة العامة وقادرة على مواكبة مستجدات العصر والتعامل مع مشكلاته، فضلاً عن إدماج المواطنة في السياسات والتشريعات العمانية المختلفة كالنّظام الأساسي للدولة، وفي الحياة العامة وتطبيقها على أرض الواقع.

كما أنَّ هذه الفلسفة الوطنية تتكامل مع إستراتيجية الثقافة التي تبنتها وزارة الثقافة والرياضة والشباب؛ حيث اعتمد صاحب السمو السيّد ذي يزن بن هيثم آل سعيد وزير الثقافة والرياضة والشباب، الخطة التنفيذية للإستراتيجية الثقافيّة 2021-2040، والتي تأتي من منطلق توحيد الجهود الوطنية لتحقيق التنمية في مختلف المجالات؛ وتحويل المشهد الثقافي العماني إلى واجهة للإبداع والتنوع الثقافي من خلال منظومة ثقافية متكاملة مصدّرة للإبداع ومنفتحة على الثقافات الإنسانية الأخرى ومحافظة على الهوية العمانية، واعتمدت الإستراتيجية رؤية تتسق مع ما تهدف إليه الإستراتيجية "عُمان وجهة ثقافية رائدة بهوية راسخة". كما تناولتْ الإستراتيجية 11 مجالًا، وخصصت مجالا للهوية والتراث الثقافي غير المادي، وأعدت محاور تتواءم مع التحوّلات العالميّة وفق نسيجها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، وارتكزت أهداف الإستراتيجية على: الإبداع والتطوير الثقافي، والصناعات الإبداعية الثقافية؛ والثقافة والمجتمع؛ والهوية الثقافية؛ والتنمية الثقافية؛ والتواصل الثقافي؛ واللوائح والتشريعات الثقافية.

وتدعم هذه السياسات والتشريعات وجود مؤسسات تشريعية وتنفيذية مختصة، وتشريعات محلية ودولية للمحافظة على التراث الثقافي والهوية والمواطنة، وانضمام السلطنة للاتفاقيات الإقليمية والدولية الخاصة بالتراث والثقافة. مع وجود خطاب ديني وسياسي داعم لتطلعات الشباب ومكتسباتهم، مع الدعوة للمحافظة على القيم المجتمعية والتماسك الاجتماعي والهوية والوطنية.

كذلك تضمنت الخطة الخمسية العاشرة مجموعة من البرامج الإستراتيجية التي تترجم إدماج سياسات الهوية والمواطنة والتراث وتحافظ على الهوية وتعزيز المواطنة المسؤولة انطلاقاً من دمج المفاهيم الوطنية في البرامج التعليمية والثقافية والإعلامية، وتنشئة الجيل الجديد على مرتكزات وموروثات الهوية والحضارة العمانية، وبناء المجتمع المنتج والمواطن المعتز بهويته والمبتكر والمنافس عالميًا، والذي ينعم بحياة كريمة ورفاهة مستدامة في ظل توجهات فكرية سامية تركز على بناء بيئة مستدامة تحقق أهدافًا اقتصادية تنافسية تسهم في تحول الدولة إلى منظومة عمل منتجة تعتمد على المواطنة، ومنفتحة على الثقافات الأخرى باتزان وحكمة.

ومن منطلق المحافظة على الهوية وتعزيز المواطنة المسؤولة كثوابت رصينة في العملية التعليمية والثقافية التنموية ينبغي التركيز على أهمية:

1- إدماج هذه المفاهيم في البرامج التعليمية والثقافية والإعلامية، وتنشئة الجيل الجديد على مرتكزات وموروثات الهوية والحضارة العمانية.

2- تعزيز البرامج التعليمية والثقافية والإعلامية والمجتمعية لبناء القدرات الوطنية بالطرق المثلى، وتعزيز الوعي بأهمية الهوية العمانية، وبناء الشخصية العمانية الداعمة لاستدامة الهوية الوطنية.

3- الشراكة مع المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني في المحافظة على الموروثات الثقافية والتاريخية، من خلال نشاطاتها المختلفة الممكنة والهادفة إلى تطوير البرامج الوطنية التي تعزز من التماسك الاجتماعي، والالتفاف حول الهوية الوطنية والحضارة العمانية إذ إن النجاح في تعزيز الهوية، والحفاظ على الثقافة يتطلب حضوراً واعياً ومسؤولا من قبل الجميع.

ومن المتوقع من المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية الوطنية العامة والخاصة والمؤسسات المعنية بالبحث والابتكار ومؤسسات المجتمع المدني تحقيق أهداف أولوية المواطنة والهوية من خلال تكثيف جهودها في إعداد البرامج والمبادرات المستدامة والمبتكرة ذات الصلة بالمواطنة والتراث، والتاريخ، والاهتمام بتعزيز ممكنات اللغة العربية والعمل على إدراجها ضمن مواد السنة التأسيسية في الجامعات والكليات، وتعزيز قيم المواطنة بشكل تكاملي في مختلف البرامج الإعلامية والتعليمية والثقافية، عن طريق إبراز الشخصيات العمانية، وغرس القيم والمبادئ التي تشكل هوية المواطن العماني، وتعزيز التعاون مع المؤسسات الأخرى والمجتمع المدني.

وبالتالي؛ سنحصد أثر ذلك الإدماج وترجمة أهداف الأولويات الوطنية إلى واقع فعلي، وتفعيل التوجهات الإستراتيجية، من خلال تأطير تلك البرامج والمرتكزات والثوابت التي تستهدف تطوير مهارات القدرات الوطنية العمانية لتصبح مؤهلة للتنافس إقليميًا وعالمياً، والسعي لتحديث الخطط التعليمية والثقافية والإعلامية في مساراتها المختلفة؛ لتتلاءم مع التطورات والتوجهات العالمية، مع تعزيز الثوابت والمبادئ الوطنية وعناصر الثقافة المرتبطة بمنظومة متكاملة من القيم والتاريخ والتراث والحضارة في ظل العولمة والتطور التقني والتكنولوجي، وتزاحم وسائل التواصل الاجتماعي وما تدسه من سموم الانحراف الفكري والانفتاح الثقافي غير المقنن، فهذه جميعا تحتاج إلى قوة دافعة وقاعدة رصينة من القيم الوطنية السامية لتكون ترسانة واقية تحمي الأجيال من هول المتغيرات والتحولات الفكرية الهادمة للفضائل والتقاليد والعادات الإيجابية والثقافة الوطنية التي توارثتها الأجيال على مر الزمن.

 

* كاتبة وباحثة في المجالات الثقافية والاجتماعية

تعليق عبر الفيس بوك