العمارة الخضراء

أصيلة الحبسية

خلق الله الإنسان وكرَّمه على سائر المخلوقات وسخَّر له ما خلقه، وأودَع له مهمة عمارة هذه الأرض التي استخلفه فيها؛ حيث قال تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفةً" (البقرة:30). وقد زوَّد الله -تبارك وتعالى- هذا الإنسان بجميع وسائل الاستخلاف والاستعمار في الأرض، وسلَّحه بكل أدوات المعرفة والتمكين والقدرة على قيادة دفة هذه الحياة وإدارة دواليب العمل فيها، ولا يزال الإنسان منذ خُلِق آدم إلى عصرنا الحالي يبذل كل طاقاته وقواه في تشييد المباني من أهرامات وأبراج شامخة وبيوت راسخة، كلها ناطقة وشاهدة على القوة العقلية والجسدية التي أنعَم الله بها على البشرية؛ ولكنَّ التحديات التي واجهتْ البشرية في مجال العمارة لا تُعد ولا تحصى؛ فمع التسخير والتكريم الذي أنعَم الله به على البشرية، إلا أنَّ مسؤولية الحفاظ على كوكب الأرض تأتي على عاتقه كغيرها من التكاليف، ولا يزال الإنسان يبدع ويبتكر في شتى الفنون والمهارات العلمية والمهنية والمعمارية، ومن أهم الابتكارات التي وصل إليها العقل البشري لتحقيق العيش الكريم على هذه الأرض، والتي تسعى لتحقيق الرضا والرفاهية والراحة للإنسان مع عدم تجاهل الجانب البيئي والاقتصادي والاجتماعي، تتمثل في العمارة الخضراء.

وفي هذا المقال، نتحدَّث عن آخر ما وصل إليه العقل البشري في مجال التشييد العمراني على كوكب الأرض، والذي يتمثل في العمارة الخضراء؛ من حيث: مفهومها، وأهدافها، ومنافعها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

والعمارة الخضراء هي عبارة عن مبانٍ مُستدامة صديقة للبيئة، ذات عوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة، ترتكز على الاستخدام الأمثل للمياه والطاقة المتجددة، والحد الأدنى من استخدام المواد الصناعية، وزيادة استخدام المواد الطبيعية والمعاد تدويرها، والحد من التأثيرات على صحة الإنسان ونقاء البيئة.

ويتمُّ تنظيم المنازل أو المباني الخضراء بطريقة تُخفِّف من التأثير الكلي على البيئة وصحة الإنسان؛ من خلال:

1- الحد من المُخلفات والتلوث وتدهور البيئة واستنزاف الموارد الطبيعية.

2- الاستخدام الأمثل والفعَّال للطاقة المتجددة والمياه والموارد الأخرى.

3- حماية صحة الإنسان وتحسين جودة الإنتاجية.

وتتمثل فوائد البيوت الخضراء فيما يلي:

أولاً: الفوائد البيئية

كفاءة الطاقة والقوة في المباني الخضراء تُقلل من انبعاثات غاز الكربون وضغط الطاقة وتأثيرها على تغيُّر الطقس والمناخ. وتحسِّن البيوت الخضراء نوعية الهواء والمياه وتحمي التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية أيضاً، كما أنَّ كفاءة استخدام الطاقة تُخفف من مجاري النفايات وتساعد على تجديد الموارد الطبيعية واستعادتها. وعلاوة على ذلك، تستخدم البيوت الخضراء مصادر طاقة غير تقليدية ومستدامة تُقلل من اعتمادنا على الوقود الأحفوري وغيره من الموارد، بخلاف المباني أو المنازل التقليدية التي تُنتج الكثير من نفايات البناء. وبالتالي؛ فإنَّ إعادة تدوير مواد البناء يقلل من الانبعاثات السلبية على البيئة.

ثانياً: المنافع الاقتصادية

إنَّ تحسين الكفاءة أداةٌ فعالة لتحفيز التنمية المستدامة وتعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية الوطنية. وتحسين كفاءة الطاقة في المنزل أو المبنى يُوفِّر بلا شك الكثير من المال فيما يتعلق بتكاليف التشغيل لأصحاب المباني والشاغلين. وهناك بعض المنافع الاقتصادية غير المباشرة المرتبطة أيضاً بالمباني المستدامة؛ مثل: تحسين الصحة والرفاهية، وتحسين الإنتاجية للشاغلين؛ مما يؤدي لخفض مستوى التغيُّب عن العمل، وتحسين الأداء الاقتصادي لدورة الحياة، وزيادة قيمة الأصول، وانخفاض تكاليف معالجة الشكاوى، ووقت أقل ونفقات أقل لقبول المشاريع المستدامة من قبل المجتمعات المحلية. والمباني المستدامة تعود أيضاً بفوائد اقتصادية أخرى؛ مثل: خفض التكاليف الناجمة عن أضرار تلوث الهواء. كما أنَّ المباني الخضراء تقدم تكاليف أقل للبنية الأساسية، على سبيل المثال، لمدفن النفايات المتجنب، ومحطات مُعالجة مياه الصرف الصحي، ومحطات توليد الكهرباء وخطوط النقل والتوزيع. ومن شأن إعادة التھیئة للمباني والمنازل باستخدام الأجھزة والتقنیات ذات الكفاءة في استخدام الطاقة للبناء والهيكلة أن تحسن العزلة الحراریة والرطوبة والضوضاء الداخلیة؛ مما یؤدي لزیادة مستویات الراحة في الحیاة والدورات الطویلة من إعادة تشكیل الممتلكات وتجدیدھا وإصلاحھا.

ثالثاً: الفوائد الاجتماعية والصحية

أظهرتْ دراسة أجريت في المملكة المتحدة بشأن مشروع تجديد المساكن الاجتماعية بعض التحسينات الملحوظة في الصحة والرفاه، إلى جانب مكاسب كفاءة الطاقة. كما أنَّ مشاريع التجديد هذه من وجهة نظر الصحة العامة تقلل أيضًا من الإنفاق على موازنات الصحة العامة. وتهدف الجهود الرامية لتحقيق كفاءة نظم الطاقة في المباني والمنازل إلى تحسين ظروف المعيشة وظروف الصحة العامة، ومعالجة مسألة الحصول على الطاقة النظيفة و"فقر الطاقة" والقدرة على تحمل تكاليفها، ومن ثمَّ التخفيف من العوائق الاجتماعية وعدم المساواة. وتقلل المنازل الخضراء الموفرة للطاقة من الضغط على البنية الأساسية للمنشآت المحلية وتحسن من نوعية الحياة بشكل عام.

ختاماً.. إنَّ مفهوم العمارة الخضراء يهدف لتحقيق التوافق والانسجام بين احتياجات الإنسان وثروات بيئته المحيطة؛ من خلال المحاور المرتبطة والمشتملة على حسن استخدام الموارد وطريقة وجودة توظيفها، والتعامل الأمثل مع التغيرات البيئية والمناخية واختلاف الظروف الجغرافية والاجتماعية؛ للوصول إلى راحة الفرد وتأمين احتياجاته النفسية والعقلية والجسدية على حدٍّ سواء.

تعليق عبر الفيس بوك