الأُمم الأخلاق (4)

أصالةُ المسلم

د. صالح الفهدي

سُئلتُ في مقابلة: ما هي أَسباب انسلاخ بعض المسلمين من القيم الأخلاقية رغم أننا نملك المرجعية الدينية وعندنا كل الأسباب للتمسُّك بالقيم؟ قُلت الإجابة هي في كلمة واحدة: "الإزدواجية"، فالإنتماء إلى الإسلام لا يعني مجرَّد القول بأنني مسلم، ولا يعني إقامة الصلاة في وقتها وإنَّما أيضًا تطبيق مباديء وقيم هذا الدين على أرضية الواقع، وأضفتُ قائلا: "بعد أن خرجت الجمعة الفائتة من الصلاة في الجامع وجدتُ سيَّارةً لأحد المصلِّين تسدُّ مدخل الجامع! فما هو معنى أن يهرع شخصٌ ما لأداء فرض الصلاة وهو يسدُّ على الناس مدخل الجامع، غير آبهٍ ولا مكترث بتعطيلهم، وإحداث الزحمة بسبب تصرفه اللامسؤول؟!".

أتذكَّر هُنا حينما جاءتني موظفة وقالت: "إن مديري ينصحني بالقول لا تتمسكي دائمًا بالصدق، بل اكذبي تارةً واصدقي تارةً أُخرى، فما رأيك؟" قُلتُ لها: "هذا يعود لك فإن كنتِ ترين الصدق سلعة تُباع وتشترى فعندها يمكنك أن تتكيَّفي مع الظروف بحسب متغيراتها، وأما إن كنت ترين الصدق قيمة من قيمك الأخلاقية التي تشكِّل كيانك الإنساني فهذا أيضًا يعود لك، ولكن لكي تكسبي شخصية وازنةً، واثقةً فعليك اعتبار الصدق إحدى القيم الراسخة في شخصيتك.

أن أكون مسلمًا يعني أن ألتزم بقيم ديني وأولها القيم الأَخلاقية التي هي أساس الدين، فقد دخلت شعوبٌ لم تكن مسلمة لا بسبب مواعظ المسلمين عن الإِسلام بل بسبب أخلاقهم التي أُعجبت بها تلك الشعوب، أما أن ننتمي إلى الإسلام في حين أن أخلاقياتنا على غير المنهج الذي يدعو إليه فنحن نعيش الإزدواجية والمراءاة متخذين من الدين رداءً وسترًا، والله ينهانا عن ذلك بالقول:" «يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون» (الصف: 2).

يروي الداعية الكويتي ومؤسس جمعية العون المباشر عبدالرحمن السميط قصَّة حينما كان موجودًا في إحدى البلدان الأفريقية يقول: تعطَّلت علينا السيارة في إحدى الطرقات النائية ولم يكن عندنا ماء، فمرت علينا سيارة الكنيسة وأوقفناها وطلبنا منهم المساعدة فقد نموت بسبب عدم توفر الماء لكن القسيس الذي كان في تلك السيارة رفض مساعدتنا وقال: أنتم المسلمون أشد أعدائنا، أنتم هنا لتحويل الناس إلى الإسلام، لذلك دعوا رسولكم محمد يساعدكم، يقول: تركونا ومضوا، ثم وفقنا الله وأصلحنا السيارة، ومضينا إلى المدينة، وبعد مسافة قدَّر الله أن نرى سيارة الكنيسة وقد تعطَّلت حينها وقفنا وعرضنا عليهم المساعدة بأية طريقةٍ كانت، ثم أخذنا السيارة لإصلاحها، وفي الطريق كان القسيس –الذي ركب في سيارتنا- يتصبب عرقًا خزيانًا مما فعله معنا، ويرى ما فعلناه نحنُ معهم الآن، حينها قلتُ له: إن ما نفعله ليس أكثر مما أمرنا به ديننا الإسلام، بعدها بمدة أسلم القسيس وجملة من كانوا معه في السيارة وهم المسيحيون الكاثوليك دون أن ننطق بكلمة عن الإسلام.

ما فائدة الدين إن لم يكن هو منهج الحياة التي نعيشُ بها حياتنا، والدين ليس مجموعة فرائض وشعائر تعبدية؛ بل هو أول ذلك مجموعة عبادات عملية توجهها وتضبطها الأخلاق السامية، ومن المؤسف أن بعض المسلمين يتردَّدون في الثقة ببعضهم البعض في العهود، والتعاملات، حيث ضعفت بينهم قيمة الكلمة، وقل الصدق، وكثر الغش، وازدادت حالات التحايل على العهود، ومعاداة صاحب الحق، وغيرها من الأخلاقيات الذميمة التي لا تجوز لمسلم الذي يفترض أن يكون من أرقى الناس أخلاقًا، وأسماهم تهذيبًا، وأرفعهم أدبًا فالنبي الأكرم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام حين سئل: ما الدين؟ قال:حُسْنُ الخُلُق (رواه مسلم).

المسلمُ الأصيل هو الذي يجعل من أخلاقه الأساس الذي يرتكزُ عليه فيما يبدرُ منه من سلوكيات، ومواقف، ويتخذه من قرارات، ويبرمه من اتفاقيات، ويظهره من استجابات، لأن الأخلاق بالنسبة له هي الضابط والرادع والموجه وهي قبل ذلك ما يحفظُ كيانه الإنساني ليكون متسقًا مع بعضه البعض غير مختل كما تُمسك الأعمدة البناء فيظلُّ سامقًا.

المسلم الأصيل متناسق في أخلاقه لا يعاني من الإزدواجية فيكذبُ هنا، ويصدق هناك، يظلم هنا ويعدل هناك، ولا يناقض نفسه في سلوكياته، ومواقفه بل هو صاحبُ مباديء واضحة وراسخة، ثابتُ الأقدام لا يتزحزح بسبب هزَّة عاطفية، ولا يجنح بسبب هفوة نفسية، ولا يسقط بسبب شهوة ونزوة.

المسلم الأصيل يواجه التيارات المشبوهة، والأفكار الضالة، والآراء الدخيلة بعقل مستتنير، وفكر منفتح ولكنه أيضًا يواجهها ولديه أساسٌ متين من اعتزازٍ بدينه، وانتماءٍ لتاريخه، وافتخارٍ لأمته ووطنه.

المسلم الأصيل لا يتنازل عن خلقه من أجل تحقيق مصلحةٍ آنيةٍ، وقضاء مصلحة لأنه يُدرك أن من تخلَّى عن أخلاقه ليحقق مأربًا ماديًا فهو إنسانٌ فَقَدَ معنى الإنسانية، وأضاع كرامته وحريته في مقابل أن يهنأ ماديًا، ويسعد ظاهريًا لكنه في داخله يشعر بالنقص لما فعله..!

خلاصة القول أن الأُمة لا ترسِّخ وجودها بالقوة العلمية، ولا بالقوة العسكرية، ولا بالقوة الاقتصادية ولا بغير ذلك وإنما ترسِّخُ وجودها بالقوة الأخلاقية التي هي وراء كل تلك القوى، يقول علي عزَّت بيجوفيتش في كتابه (الإعلان الإسلامي): "إنّ كل قوة في العالم تبدأ في ثبات أخلاقي، وكل هزيمة تبدأ بانهيار أخلاقي" ما يعني أن الأُمة لن يغنيها شيءٌ إن انحدرت أخلاقها، وتهاوت إلى الحضيض!