علي بن مسعود المعشني
سُعار التطبيع اليوم وتمكين الكيان الصهيوني من جسد الأمن القومي العربي غير مسبوق ولا يمكن تفسيره إلا من خلال استنطاق هذا السعار المحموم اليوم أكثر من ذي قبل، ولماذا هذا السعار موجه بالتحديد الى أقطار الخليج خزين الثروات العربية؟!
فكل يوم يمر على الكيان الصهيوني اليوم يُشعره بزواله لا محالة، ولم يكن الكيان بهذا الحجم من القلق لولا المستجدات المتسارعة من حوله والتي تطورت من الكراهية إلى الردع المسلح المباشر وتحديدًا منذ ملحمة يوليو 2006.
أقطار الخليج تُمثل الخاصرة الرخوة للأمن القومي العربي، وفي الوقت نفسه تعاني من ظاهرة الاستقرار القلق وهي ظاهرة خطيرة تحمل الكثير من أعراض التشظي والفوضى غير الخلاقة، فهي أقطار ريعية بامتياز تقوم اقتصاداتها على استخراج النفط وتصديره خام للغرب والشرق ولا تنتجه أو تُصنعه أو تمتلك تقنيته، ومن يقوم على هذه الثروة هي شركات غربية يمكن أن تغادر وتُقلع في أية لحظة تقتضي مصالح أوطانها وكما هو حالها مع إيران وروسيا اليوم، والأخطر من هذا هو تسليم مدخراتها من عوائد النفط الى المصارف الغربية كودائع أو سندات خزينة.
الغرب اليوم يقوم بتجميد نحو 120 مليار دولار أموال إيرانية و500 مليار دولار أموال روسية، والسؤال هو: ماذا يمكن لأقطار الخليج أن تفعل لو تعرضت لهكذا قرار قرصنة من الغرب؟!
الغرب ليس دولًا كما نتوهم؛ بل عصابات أنتجت مؤسسات تحميها وتديرها وتنبرئ هذه العصابات حينما يتعلق الأمر بقرصنة هنا أو هناك؛ حيث تسلط مؤسساتها وتتسلح بقانون الغاب وقانون القوة معًا لتحقيق قرصنتها ضاربة عرض الحائط بالمواثيق والقيم والأعراف المنظمة للعلاقات بين الدول، ولا تتوقف عند هذا الحد؛ بل تتطاول لتوظيف المنظمات المسماة بـ"الدولية" مثل الأمم المتحدة ومشتقاتها لتصبح أدوات فاعلة لها وخاصة تجاه الأقطار التي تؤمن وتصدق بأن هناك شرعية دولية يجب احترامها والامتثال لقراراتها، فمن دمر أفغانستان والعراق وليبيا واليمن وسورية ليست بلدان بل عصابات بمسمى لوبيات أو مراكز قوى أو نفوذ...إلخ.
مجمل الأوضاع الإقليمية والدولية اليوم تنطق بجملة من الحقائق؛ منها أن الكيان الصهيوني يبحث بجدٍّ عن جغرافيات جديدة يعيد التموضع فيها ليعود مجددًا وفي زمن ما بأسماء ولبوس ومخططات جديدة ويسعى في الأرض فسادًا كعادته ورسالته. وأقطار الخليج هي الجغرافيا المثالية لهذا المخطط المستقبلي؛ حيث القوانين الرخوة والتي شُرعت بغواية من منظمة التجارة الدولية تحت عناوين براقة مثل الرؤى المستقبلية وجذب الاستثمارات والتنوع الاقتصادي، وبفعل هذه القوانين الرخوة يسهل اختراق أقطار الخليج العربية وتشكيل لوبيات صهيونية قوية ومؤثرة بجنسيات غربية وشرقية مختلفة.
وفي لحظة تاريخية فارقة تتصدر هذه اللوبيات المشهد وتقود مصير أقطار الخليج وترسم ملامحه وتقرر سياساته، وهذا سيناريو مكرر لاحتلال فلسطين- لمن يتعظ ويقرأ التاريخ- وكيف بدأت تلك العصابات بالتوافد على فلسطين بمسمى مهاجرين ومظاهر مشردين، ثم تحولت الى عصابات ولوبيات تتملك العقارات وصولًا إلى حماية تلك الأملاك بقوة السلاح ثم إعلان دولة العدو وبتوافق واعتراف دولي لتصبح أمرًا واقعًا.
ما زال هناك من يصدق ويتعامل مع الكيان الصهيوني ككيان سياسي ولم يستوعب بعد بأن هذا الكيان مشروعًا غربيًا بامتياز، رسالته تشتيت جهود الأمة وإعاقة نهوضها ووحدتها وتكاملها، وهويته. إنه كيان فوق القانون، لهذا لا يتورع هذا الكيان ورعاته وأعوانه في تسويقه مثل السيد والراعي الاقليمي، فهو لا يقبل الندية وتوازن القوة مع أحد في المنطقة كون ذلك يخل بوظيفته الأساس، وهي تطويع الأمة العربية وإذلالها، لهذا نرى الغرب يقوم على تنفيذ سياسة تطهير الأقطار العربية الفاعلة أولًا بأول، ويتولى الكيان القيام بسلسلة اغتيالات وتصفيات للعقول والكفاءآت والمشروعات العربية المتفردة أولًا بأول؛ لأن الصراع صراع وجود وليس تمكين كيان سياسي في جغرافية بعينها والتطبيع معه سرًا وجهرًا والقبول به خوفًا وطمعًا.
قبل اللقاء.. من كان يؤمن بأن أمريكا قضاء وقدر لا يُرد وأن الكيان الصهيوني جيش لا يُقهر وذراع طولي، نقول له إن العالم يتشكل اليوم بصورة مفصلية حادة ولم تعد تلك التوصيفات الخرافية تستقر سوى في عقول الانهزاميين وأتباع ثقافة البؤس والفجيعة!
وبالشكر تدوم النعم.