موسم الحج

أنيسة الهوتية

كنا لا ننام بعد صلاة الفجر في يوم خروج الحجاج إلى الحج، فكان وكأنه يومٌ يزيد فيه الحماس ويتجمع شباب الحارة حول بيتنا الذي كان فيه "سمان" أغلب الحجاج، ومن بعد الصلاة يبدأون بتحميلها من بيتنا- أسفل جبل كهبون- إلى الباص مقابل مقبرة اللولوة.

وحول مسجد اللولوة كان يتجمع جمع غفير من الناس المودعين لحجاجهم، ومن الحجاج من كان  يأتي للمبيت في بيتنا قبل يوم السفر بليلةٍ أو اثنتين أو ثلاثة حسب ظروفهم وظروف من يجلبهم من أماكن سكناهم البعيدة من صور، وقريات، وبلة، وبركاء، وكان البيت أشبه بفندقٍ لكبار السن المتجهين إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.

فسائق الباص والطباخ كان عمي نورالدين، وصاحب الباص ورئيس تلك الحملة كان أبي- رحمهما الله- ومن الأسماء التي ما زالت محفورةً في ذاكراتي من تلك المواسم الجميلة اسم الجدة آمنة أم محمد، كانت تأتي إلى بيتنا كثيرًا وتبيت معنا حتى من غير موسم الحج، وبعد صلاة الفجر تطلب مني أن أقرأ لها القرآن لأنها لم تكن تجيد القراءة.

والجدة فاطمة من مزارع قريات، وقد جلبت لي ثوبًا عمانيًا تقليديًا خاطته بيدها مع "السنجاف" و"الفراريخ" وأعطته لأمي على أنها هدية العيد لي، فألبستني إياه أمي في أول أيام عيد الأضحى وكان لي من العمر 5 سنوات.

والجدة سلامة، والتي في السنة التي أخذنا فيها والدي إلى الحج جميعنا- إخوتي وأخواتي وأمي الحامل- كانت تجلسني بجانبها في الباص وتطلب مني أن أنادي بصوتٍ عالٍ: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.. وتطلب من الحجاج في الباص التجاوب مع صوتي الذي لم يكد يسمع حتى من أذناي.

وغيرهم الكثير- رحمهم الله تعالى- لم يبق منهم إلا ثلاثةٌ أو أربع وقد أتعبهم الشيب والمرض!

وطبعًا عيد الأضحى بالنسبة لنا كان في يوم عودة الحجاج، فقد كان ذلك اليوم أجمل من يوم العيد نفسه! كان يخرج جميع من في الحارة لانتظار حافلة الحجاج، ومنهم من كان يستعد من الليلة الماضية بتثليج الماء لوضعه في "ترامس" وصفِّها أمام الدكان المقابل للمسجد مع الأكواب حتى يشرب منها الحجاج في وقت وصولهم ماءً باردًا مستساغًا.

والأحداث تموت ولا يبقى منها غير الذكريات. والذكريات سرٌ من أسرار الحياة مثلها مثل الهواء والماء والطعام والنوم؛ فاللحظات التي نعيشها تشتعل وتموت سريعة، ولا نستشعر بجمالها إلا باسترجاع الذكريات.. لأجل ذلك تعلمت من الحياة أن أجمع الذكريات الجميلة فقط قدر الإمكان، وألّا أضع نفسي في مواقف سيئة مع الآخرين حتى لا أكون ذكرى سيئة لأي إنسان أو حتى لنفسي! فعندما نسعى لتطهير ذكرياتنا فنحن من نخطها ونكتبها ونحفظها، ونكون بذلك قد أنجزنا الأخلاق الطيبة في حياتنا وفي نفوس غيرنا.

ولكن، للأسف الشديد هناك أشخاصٌ حولنا لا تهمهم إبقاء الذكريات الجميلة في ذاكرتهم أو ذاكرة غيرهم؛ بل يسعون لإضافة الشوائب والتعكير، ومحاولة تغيير مجريات التاريخ بامتلاك ذكريات الآخرين وإضافة أنفسهم فيها، أو بالتحكم عن بعد بهم من خلال الاتصال بـ"الواي-فاي" الذهني بهم.

وأحيانًا أفكِّر، هل مثل هؤلاء الناس تقبل منهم عباداتهم؛ صلاتهم، صيامهم؟ وهل حجهم يكون مبرورًا؟ وهم ممن قطعوا أرحامهم أو تسببوا بقطع أرحام غيرهم، فقاطع الرحم ليس من قطع أرحامه؛ بل أيضًا من تسبب بقطيعة رحمٍ لغيره بغيبةٍ، وفتنةٍ، ونميمةٍ، وكذبٍ، وبهتانٍ، وتلفيقٍ، وإفك!

ولا أجد جوابًا لسؤالي! فأتبعه بدعاءٍ لهم: اللهم اهدهم فيمن هديت وتولهم فيمن توليت.