الأُمم الأخلاق (2)

كلمة تاريخية في التربية والأَخلاق

د. صالح الفهدي

استوقفتني الكلمة التي وجهها المستشار بهاءُ الدين المري رئيس محكمة جنايات المنصورة بجمهورية مصر العربية؛ وهي بمثابةِ صيحةٍ إلى المجتمع قبل نطقه بالحكم على الشَّاب الذي "ذبح" زميلته الطالبة بكلية الآداب في جامعة المنصورة، ضمنَ كلمةٍ مؤثِّرة أنقلها هُنا لأهمية أن يقرأها كلَّ فردٍ ويعيها، ولأنها صادرةٌ من قاضٍ يشخِّصُ مآلات الاختلالات الأخلاقية على الأفراد والمجتمع، والنهايات البشعة التي تكونُ عليها أحوالها.

يقول المستشار القاضي: "دُنيا مُقبلةٌ بزخَارفِها، وإنسانٌ مُتكالبٌ على مَفاتِنها، ماديةٌ سَيطرَت، فاستلبَت العُقولَ وصارَ الإنسانُ آلة، يَقينٌ غابَ، وباطلٌ بالزَّيف يَحيَا، وتَفاهاتٌ بالجَهر تَتواتَر، وبَيتٌ غابَ لسببٍ أو لآخر، والمؤنسِاتُ الغالياتُ صِرن في نظر المَوتُورينَ سِلعة، والقواريرُ فَواخير، ونَفسٌ تَدثرت برداءِ حُبٍ زائفٍ مَكذوب. تأثرت بثقافةِ عَصر اختَلطت فيه المَفاهيمُ، الرغبةُ صَارت حُبًا، والقتلُ لأجلهِ انتصارًا، والانتقامٌ شَجاعةً، والجُرأةَ على قِيَم المُجتمع وفُحشِ القَولِ والعلاقاتُ المُحرَّمةُ، تُسمَّى حُريةً مَكفولة، ومن هذا الرَّحم وُلدَ جَنينًا مُشوَهًا، وَقُودُ الأمَّةِ صارَ حَطبَها. باتَ النشءُ ضَحيةَ قُدوةٍ مُشوهة، وثقافاتٍ، مَسمُوعةٍ ومَرئيٍّةٍ ومقروءة، هذا هو حالُها، ومن فَرْطِ شُيوعهِ، واعتباره من قبلِ كثيرين كشفًا لواقع، زُيِّنَ لهم فَرأَوهُ حَسنًا، فكان جُرمِ اليوم له نِتاجَا، أفَتذهبُ نَفسُنا عليهم حسَرات؟! إنَّ هذا الخَللَ، إنْ لم نأخذ على أيدي المَوتورينَ ومُروِّجيهِ؛ استفحَلَ ضَرَرُه، وعَزَّ اتقاءُ شَرِّه، واتسَع الرَّتقُ على الراتق. يَا كُلَّ فِئاتِ المُجتمعِ لا بُدَّ مِن وَقفَة، يا كُلَّ مَن يَقْدرُ على فِعلِ شَيءٍ هَلُمُوا، اِعقدوا مَحكمةَ صُلحٍ كُبرَى بين قُوَى الإنسانِ المُتابينةْ، لنُنَمِّيَ فيهِ أجملَ ما فيه، أعيدُوا النَشءَ المُلتوي إلى حَظيرةِ الإنسانية، عَلِموهُم أنَّ الحبَّ قَرينُ السلامْ، قَرينُ السَكينةِ والأمانْ، لا يَجتمعُ أبدًا بالقتلِ وسَفكِ الدماء، أنَّ الحبَّ ريحٌ من الجَنةِ، وليس وَهَجًا من الجَحيم، لا تُشوهوا القُدوةَ في مَعناها فتَنحلَّ الأخلاقْ، عَظِمُوها تَنهضُ الأمَّة، هكذا يكونُ التناولَ، بالتربيةِ، بالموعظةِ الحَسنَةِ، بالثقافةِ، بالفَنِون، بمنهجٍ تكونُ الوَسَطَيةُ وسيلتَه، والتَسامُحُ صِفتَه، والرُشدُ غايَتَه لا تشوهوا القدوة في معناها فتنحل الأخلاق. لا تضيعوا من تعولون، صاحبوهم، ناقشوهم، غوصوا في تفكيرهم، لا تتركوهم لأوهامهم. اغرسوا فيهم القيم".

كلمةٌ صدرت وهي تئنُّ من صدرٍ يتألَّم وهو يتلقَّى القضيَّة تلو الأُخرى، كلَّ قضيَّة أشدُّ وحشيَّةً من السابقة، ومن منصَّةِ القضاءِ أطلق الصيحة المدوّية إلى المجتمع "أعيدوا النشء الملتوي إلى حظيرة الإنسانية"؛ لأن هناك من تخطَّفهُ بسوء الأعمال والأفعال، لأن هناك من أغواه بالأفكار المنحرفة، والأهواء الضالة، والإغراءات الفاسدة، فينحرف به من حضيرة الإنسانية إلى حضيرة الحيوان تابعاً شهواته، مستغرقاً في ملذَّاته.

"علَّموهم أن الحب قرين السلام، قرين السكينة والأمان" فالحبُّ هِبةٌ ربَّانية، صافية المشرب، عذبة الزلال، نقيَّة النوايا، رقيقة المعنى، لا يخالطها الإثم، ولا يمازجها الضلال، ولا تشاوبها الفواحش".

"لا تشوِّهوا القدوة في معناها فتنحل الأخلاق، عظموها تنهض الأُمة"؛ لأن القدوة هي أعظم ما يتربَّى عليه النشء، وأهم مصدرٍ يستمدون منه الفكر والسلوك والطباع فإن فسدت فسدت معها التربية وإن صلحت كانَ صلاح النشءِ ظاهرًا بيِّنًا في مجتمعٍ صالح، ووطنٍ متماسك، ولقد تشوَّهت القدوة لأنها ذهبت لغيرِ أصحابها الفضلاء الذين هم عِمادُ الأُمة، فتخطَّفها السُّفهاء من الأمة الذين أسقطوا رداءَ الحشمة، وأضاعوا عقال الأدب..!  

وإلى الآباءِ والأمِّهات كان نداؤه: "لا تضيعوا من تعولون، صاحبوهم، ناقشوهم، غوصوا في تفكيرهم، لا تتركوهم لأوهامهم، اغرسوا فيهم القيم"؛ فالتربيةُ ليست إنجابُ أبناءٍ ثم تركهم يتسكَّعون في الشوارع كالدَّواب؛ بل إن المواشي لها حظائرُ وأعلافٌ وعناية، فما بالكم بالبشر الذين يحتاجون إلى أبٍ راعٍ، وومعلَّمٍ، موجِّهٍ ومرشدٍ، وقدوة حسنة، وإلى أُم فاضلةٍ شريفةٍ عطوفةٍ، تراعيهم وتصاحبهم.

التربية هي القاعدة الرئيسة في تنشئة الأبناء، أمَّا الأخلاقُ فهي عِمادها المُحكم الوثيق، الذي يُقيمُ بنيانَ الأُسرة والمجتمع، وفيها يقول الشاعر معروف الرصافي:

هي الأخلاق تنبت كالنبات // إذا ُسقِيَت بماء المكرُمات

تقوم إذا تعهّدها المُرَبّي // على ساق الفضيلة مثمرات

ويُفهم من معنى الأبيات أن الأخلاق لن تنبت إلَّا إذا سُقيت بماءِ المكرمات؛ أي الخصال الحميدة، والتربية الراشدة، ولن تقوم لحالها إلَّا إذا تعهَّدها المربي؛ أي الوالدين في الأساس وولاةُ الأمر في المجتمع.

إنَّ الأب أو الأُم إذا تبع الواحدُ منه هواهُ لم يضيِّعوا أنفسهم وحسب؛ بل يهدمون أركان بيوتهم ومجتمعهم، ويقضون على أبنائهم، ولنا في قصَّة المرأة التي اتَّفقت مع عشيقها على قتلِ زوجها أمام أعينِ أطفاله ليشهدوا مقتلهِ، أفقدتهم والدًا مربيًا، وأنهتْ هي وعشيقها مغامرتهما الدنيئة بحكم الإِعدام، أما مصائرُ الأَبناءِ فلا يُستغرب إن سقطوا في مستنقعات المخدرات، أو الإنحراف بعد الصدمة النفسية التي تعرضوا لها بفقدان والديهما..!

أعودُ إلى كلمةِ المستشار بهاء الدين المري المؤثِّرة التي جاءت بعد هول ما يراه في المحاكم من مصائب أساسها التربيةُ الهشَّة، والفراغ العاطفي، والإنحدار الأخلاقي، وتشوُّه القدوات، لأتمنى على أن يُصدر القضاةُ قبل كل حكم- كما فعل المستشار في كلمته لهذه الجريمة أو الجرائم السابقة- بيانات يتناقلها الناسُ مشخِّصين أسباب ذلك، وداعين إلى الإِصلاح؛ فالقضاءُ من مهمِّته الإصلاح وحماية المجتمع، لهذا فإن بياناته وكلماته لها وقعها على الأفرادِ والمجتمع، ولا يجب أن تمرَّ أيَّة حادثةٍ دون أن يعقِّبَ عليها القاضي في محكمته، والخطيبُ في منبره، والمعلِّم في مدرسته، والكاتبُ في صحيفته، والإعلامي في منصَّته، حتى يعي الجميع الأسباب والمآلات التي تكون من جرَّاء الضياع الأخلاقي، والفراغ العاطفي، والتحلل الأُسري، والإنحراف الفكري وبذلك ستعلو الأصوات للإصلاح، والنداءات للتهذيب.