القاهرة كما أحببتها

سليمان المجيني

بشكل عام، لستُ كثيرَ السفر، لكنني زرت معظم الأقطار العربية، وشهادتي متفاوتة بكل قطر، لكنني في صدد الحديث عن مدينة القاهرة التي شهدت أول انطباعاتي عام 1997.

جرى ذلك بكل سلاسة بعد تبييت نية الذهاب لها بعد حفل زواجي بيومين تقريبا، وكنت أعتقد أني سأذهب لمكان أكثر إلفة بالنسبة لي من أي مكان آخر، أكثر إلفة لأني خبرت الحارات وعرفتها من خلال مسلسلات مصرية عدة كخان الخليلي، وليالي الحلمية، وأحلام الفتى الطائر، ومن الذي لا يحب فاطمة... وغيرها.

أكثر إلفة من خلال المقاهي الشعبية والطرق والكباري (الجسور) والازدحام والأصوات المختلطة والمزدحمة هي الأخرى بعنفوان المصري ابن البلد، وصوت أبواق السيارات ولوحات الإعلانات، والسحنات البلدية المصرية التي تلبس الجلباب، والسينما والمسرح، كلها وغيرها الكثير رموز المكان التي عشقته، ورجوت أن أكون به يوما في حياتي.

مصر بجلها كانت حاضرة في ذاكرتي قبل السفر، وبقيت تلك الصورة حاضرة تنخر فيها، تعمق مكانتها وتزيد إلفتها حتى ظننت أن بُعدها سوف يكون وبالا وخيبة أمل، وكيف لا يكون كذلك وقد تربينا على وقع مسلسلات الحارة المصرية كبولاق الدكرور وناهيا، وأرض اللواء وشارع السودان، والسيدة زينب والمنيرة، والعتبة والحسين؟ لم تكن هذه الأحياء وغيرها أحياءً عادية، بل رموز وشواهد على الإنسان المصري المكافح.

أيقنتُ أنني لن أتخلص من حبي للقاهرة، واعتقدتُ أنَّ خير طريقة لتركها هو التمرُّغ فيها حبًّا وهياما وتوددا، عل أحدنا يلفظ الآخر، لعل هذا الاستئناس سوف يخلق ردة فعل عكسية، لكن هذه الطريقة لم تجدِ نفعا؛ فالقاهرة تزداد ألقا مرة تلو الأخرى، وأزداد تعلقا بها مرة بعد مرة، لا أرجو للقاهرة أن تنتهي.

من يستطيع ترك عادته القاهرية صباح كل يوم بالنظر من الشرفة المطلة من برج الجزيرة على شارع دجلة المتفرع من شارع شهاب، وبيده شاي الصباح يرتشفه ويسمع صوت صاحب عربة الخردة وهو يقول "بيكيا" اختصارا "لروبابيكيا"؟ ومن يستطيع نسيان بائع البطيخ، وبائع البلح المصري وصوت بائع الأنابيب (أسطوانات غاز الطبخ المنزلية)؟ من يستطيع تجاهل صراخ الأطفال ولعبهم وهم في طريقهم للمدارس القريبة من المكان؟

مصر بعنفوانها وهيبتها هي بيت الجميع، والقاهرة مهما ظهرت مدن أحدث عنها ستكون هي الملاذ وهي الراحة النفسية التي تصدح في ذهن كل محب للاختلاف والمتعة.. القاهرة مزيج من سكان مصر كافة؛ هي: سوهاج والمنيل معا، هي الدقهلية والعجوزة، هي قنا والأقصر والدقي، هي دمنهور والجيزة، هي دمياط والمهندسين، هي أسوان والإسماعيلية وجزيرة الزمالك، هي الفيوم والمعادي، هي المنصورة وحلوان، هي شارع جامعة الدول وسور نادي الزمالك، هي شوارع شهاب وسوريا وأحمد عرابي ولبنان ومحيي الدين أبو العز والسودان، وهي ميدان التحرير وشارعا قصر النيل والقصر العيني، وهي ميدان مصطفى محمود وجامعه الكبير، هي مقاهي العمدة وشقاوة، هي محلات العروبة وملوكي ومطعم جاد وعصائر فرغلي.

وسط البلد المهيب، وشارع عبدالخالق ثروت ومكتبة مدبولي ومكتبتا جامعة القاهرة وجامعة عين شمس الشامختان وسور الأزبكية... وغيرها، النور الذي يسطع على القاهرة، ميزان العقل القاهري ومعلوماته.

تختزن القاهرة تاريخها لنفسها ولغيرها من محبي الأضواء والفسحة الحقيقية، التناغم في القاهرة قلما تجده في أماكن أخرى، حتى خلافاتك مع البواب وأصحاب الشقة فيه متعة ومواقف لا تُنسى لأنهم يضحكون ويرضون، هي قلوبهم الصافية ونفوسهم الغنية الواسعة لكل اختلاف، لا تُضمِر الحقد ولا تؤذي البشر والمتضمخة بالحضارة.

استخدامي لوسائل النقل المعتادة قصة أخرى، "الميني باص" من أرض اللواء لمحطة مترو البحوث ومن ثم للسادات فالسيدة زينب، أترجل من المترو مرورا بالباعة المتجولين وبعض السكك الضيقة المؤدية لقرية المنيرة ومقاهيها ناحيتي الطريق إلى مدينة جاردن سيتي؛ حيث يتواجد معهد البحوث والدراسات العربية، هكذا كل يوم.

إتقاني لهجتها الجميلة وضعني في موقف المتعاطي غير مرة مع سائق التاكسي حتى ليحسبني بعضهم من إحدى المحافظات المصرية، زيارة الرئيس المصري لمسقط هذه الأيام أفاضتْ بذاكرتي، وجلجل وقعها قلبي حنينا وحبا لقاهرة المعز.

تعليق عبر الفيس بوك