علي بن مسعود المعشني
مشكلة اليمن الحقيقية أن تاريخه السياسي كُتب بطريقة تبعث الثأرات والأحقاد والتشفي، فكل طيف سياسي حكم اليمن كتب تاريخه لامعًا، وتاريخ خصومه حالك شديد السواد ولم يُقدر لهذا التاريخ أن يُكتب بحيادية وعلمية وتجرد لغاية اليوم، من هنا تداولت الأجيال اليمنية غث التاريخ ولم تنعم بسمينه فكانت النتيجة الطبيعية بعث الخصومات، وإعادة إنتاج الثأرات والخصومات وكأنها حاضر حتمي وزاد مستقبلي وليست أحداثا تاريخية لها ظروفها التاريخية والموضوعية في زمنها.
يقول الملك الحسن الثاني -رحمه الله- في كتابه ذاكرة ملك: "قال لي الجنرال أحمد الدليمي (وزير الداخلية): لو أردت يامولاي أن تشرب القهوة بمدينة وهران الجزائرية لحققنا لك ذلك في ظرف ساعات قليلة، فقلت له: يا جنرال أحمد كل حرب تُخلف ثأرات وأحقاد لثلاثة أجيال على الأقل (90 عامًا)، فهل تضمن للمغرب حب وود الأجيال الجزائرية القادمة؟!". هذا الكلام في زمن المناوشات العسكرية الحدودية بين الجارتين الشقيقتين: الجزائر والمغرب، ووهران أكبر مدن الغرب الجزائري وثاني مدن الجزائر بعد العاصمة في الحجم والأهمية وعدد السكان.
المراد من هذين المثالين هو توضيح آثار الحروب والاقتتال بين الشعوب أو الشعب الواحد؛ حيث تصمت البنادق والمدافع في لحظة ما. ويتفق الخصوم وتبقى الآثار والتداعيات لكل حرب لعقود طويلة، وخاصة في نفوس وقلوب الضعفاء من الناس من الذين فقدوا عزيزا عليهم أو تيتموا أو ترملوا أو تحملوا وزر إعاقة وتشرد ونزوح وهجرات وخلاف ذلك. وتتعاظم تلك الثأرات والأحقاد وتبقى مطبوعة في العقل الجمعي والذاكرة الجمعية للشعوب والأفراد لعقود أطول حينما تكون مبررات ودواعي تلك الحروب والمحن مُفتعلة وغير مبررة ولا منطقية.
واليوم تقود أمريكا المنطقة قسرًا إلى ترسيخ تأريخ ثأري مع الجوار الحيوي لها وبما يخدم المصالح الأمريكية فقط على المدّين: القريب والبعيد، وبما يورث أقطار الخليج ثأرات لا تنتهي ولا تُعد وكمن يُطلب منه قضم أطرافه وحرقها بوعيه وكامل إرادته!!
القمة المرتقبة بالرياض في يوليو المقبل بين حكام المنطقة والرئيس الأمريكي جو بايدن، وفي هذا الظرف لن تكون سوى فصلًا آخر جديدًا من فصول ترسيخ التاريخ الثأري بالمنطقة؛ ذلك التاريخ الذي ستدفع ثمنه أقطار الخليج غاليًا وطويلًا خاصة حين يتخلى عنها "الحليف" الأمريكي الزائف والبارع في التنكر بعد تحقيق مصالحه.
كان السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- من أكثر القادة حرصًا وحساسية من ترسيخ تاريخ ثأري مع أحد لقراءته العميقة للتاريخ ومعرفته الدقيقة بنتائج ذلك كحتمية تاريخية لا تقبل الاجتهاد؛ لهذا كان يرفض رفضًا قاطعًا أي تعاون أو تحالف يُخل بنواميس التاريخ ومقتضيات الجغرافيا والجوار الحيوي.
تداعيات الأزمة الأوكرانية تدفع كل يوم بجديد، وما زال سجالها يتراوح ما بين تيار غربي عقلاني محدود التأثير ينادي بضرورة حصر ضرر هذه الأزمة في جغرافيتها والاعتراف بحقوق روسيا وفق مقتضيات أمنها القومي وتفهم مخاوفها، وبين تيار واسع مقامر وحالم يرى في هذه الأزمة فرصة له للنيل من روسيا وإضعافها وإخضاعها لسيطرته وتفرده بالمشهد الدولي كقطب أوحد وكقضاء وقدر للشعوب البائسة في العالم.
زيارة الرئيس بايدن المرتقبة للمنطقة وأجندتها المعلنة والمتوقعة وفق المعطيات تتمثل في حشد وتجييش أقطار الخليج لخدمة العرش الأمريكي، وإن كان على حساب مصالحها وأمنها القومي وسيمتد إلى الإخلال الحتمي بالتاريخ والجغرافيا للمنطقة ويورثها الثأرات والأحقاد والتشفي والانتقام لعقود قادمة.
وباستعراض سريع للمقامرات الأمريكية بأقطار المنطقة وتحت مسمى الحلفاء، فقد أُدخلت هذه الأقطار في صراعات وحروب غربية إقليمية ودولية "لا ناقة لها فيها ولا جمل"، وأخطرها على الإطلاق هو المخطط الحالي للتحالف مع العدو الصهيوني؛ لمواجهة ما يُسمى بـ"الخطر الإيراني" وتعويض نقص الطاقة العالمية من قبل روسيا.
فشمّاعة وفزّاعة الخطر الإيراني التي يسوقها الغرب لتمرير التطبيع و"الإبراهيمية" وأخواتها والقبول بالكيان الغاصب المسخ كعضو أصيل في جسد الأمة ومكوناتها الطبيعية سيكون على رأس الاملاءات التي يحملها بايدن في زيارته القادمة وعلى قاعدتهم الشهيرة من ليس معنا فهو ضدنا.
الكيان الصهيوني يسعى جادًا اليوم للعبث في المياه الإقليمية للبنان، وسرقة غازها وتصديره للغرب لتعويض النقص الحاد للطاقة، وستُجبر أقطار الخليج على تعويض الفاقد من ذلك، وأن تكون أقطار الخليج قواعد عسكرية حليفة للكيان الصهيوني في حربه القادمة وهامش مناورة له في حال فقده لبنيته العسكرية بداخل فلسطين المحتلة وهو أمر قادم لا محالة، والنتيجة تَنصُل أمريكا مجددًا من الاتفاق النووي مع إيران بعد أن وصل إلى مراحله النهائية، وتخلي إيران تدريجيًا في المقابل عن التزاماتها لوكالة الطاقة النووية، وتصعيد وتيرة التخصيب لديها، ومواجهة مسلحة حتمية بين فصائل المقاومة بفلسطين ولبنان مع الكيان الصهيوني، في حال مواصلته عربدته وإصراره على انتهاك المياه الإقليمية اللبنانية وسرقة ثروات لبنان الغازية، وسيتبع ذلك تصعيدًا أوسع من دول الممانعة؛ كون النزاع المسلح لن يتوقف أو يُحصر في جغرافية لبنان وفلسطين، كما سيضع هذا التخندق القسري لأقطار الخليج مع أمريكا وكيان العدو -ما لم تتداركه- في مواجهة مباشرة وأهداف عسكرية مباشرة مع إيران وحلفاءها بالمنطقة وروسيا حاليًا والصين في المستقبل القريب.
في لقاء جمعهما، يقول الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون للأمير طلال بن عبدالعزيز- رحمه الله- "إن حلفاءنا في الخليج ورغم حجم المصالح المشتركة بيننا، لم يطلبوا منا يومًا مقابلًا لأي خدمة نطلبها منهم وهذه من أبجديات السياسة ومفردات التعاون بين البلدان وفي سياق تفعيل نظرية المصالح المشتركة".
قبل اللقاء.. أمريكا ستقاتل بنا كشعوب وأقطار وثروات وجغرافيا وثوابت وتاريخ، والمطلوب منا أن نقول (لا) لأمريكا ولمرة واحدة فقط، وهي اليوم؛ فالمسألة لم تعد "تحالفات"؛ بل أصبحت في خانة "نكون أو لا نكون".
وبالشكر تدوم النعم..