في فمي ماء

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

 

استوقفتني عبارة قالها الفيلسوف اليوناني أفلاطون: "لو أمطرت السماء حرية لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات"، جميعا نحبّ المطر وجميعا نتغنى بأناشيد الحرية، وتلفتنا أجنحة الطير المحلقة عاليا، وكثيرا ما لاحقتها أعيننا دون أن ترمش حتى تتوارى خلف الأفق، فتسقط أبصارنا على الأرض خاسئة مستسلمة لواقعها ولحديث النفس بلسانه القائل: "يا بخت الطيور".

انتهت عصور العبودية بمفهومها المطلق، ولا أسف عليها، الأسف يكمن في من لم يستطع الخروج من أذيالها، وما زال يروق له الوقوف على أطلالها وقبل على نفسه أنّ يكون طبلة بيد طبّال.

آلة الطبل من أهم الآلات الموسيقية التي تعمل عليها الموروثات الشعبية، يرجع تاريخها إلى ما قبل الميلاد وكان أول استخدام لها في الهياكل الدينية قديما.  

استخدمت فيما بعد في إعلان صوت الحرب؛ فعندما تقدم دولة على حرب دولة أخرى، تُقرع الطبول لإعلان صوت الموت، فيكون لها أثرها على مسامع الناس من إشاعة الذعر وإيقاد الحماس بين المتحاربين لسفك المزيد من الدماء، وإشعال الحقد والكراهية والثأر في نفوسهم، كما أصبح الطبل وسيلة مهمة فيما بعد للتعبيرعن الأفراح بإيقاعات مختلفة تُبهج المسامع طربا، تختلف من بلد إلى آخر حسب موروثه الشعبي.

ما يزال يأسرنا صوت الطبل؛ فقد تطوّر استخدامه ليواكب مجريات حياتنا ليس إيقاعيا فحسب؛ إنما فكريا فهناك من يتبنى فكرا معينا ويقيم له عرسا ويعزّزه بإيقاعات المرواس والرحماني؛ فيقصد العرس كلّ طبّال مهين،"همّاز مشاء بنميم".  

أخذتُ شربة ماء أسمنتْ ضجميّ، وأثقلتْ لساني، وانطلقتُ نحو العرس الآسر بإيقاعاته، وهيأتُ نفسي أنْ أصافح من أعرفه وأبتسمُ في وجه من لا أعرفه مع المحافظة على كمية الماء في فمي، عزفتُ عن الكلام وتجاهلتُ أصناف الطعام على الموائد وثابرتُ كثيرا في رسم ابتسامة عبيطة على وجهي، شادّة حيلي في الرقص والتصفيق، انتهى العرس مبكرا أو كذلك حسبته، عدتُ أدراجي قاصدة أقرب مغسلة وبصقتُ الماء، فانزعجتُ من كمية الديدان المتكاتلة من فمي، فنظرت للمرآة أمامي وبصقتُ ما تبقى في وجهي!

عندما يتضارب الواقع بين ما تراه وما تقرأه في بعض الكتب، لاسيما كتاب "فلسفة الحق" للفيلسوف الألماني هيجل، يجعلك تصطدم بمرآة ذاتك فتنكسر وتنحني لأخذ قطعها التي تسببت لك بجرح دامي؛ محاولا إرجاعها كما كانت، فتشعر بعينيك يملؤهما الماء فلا تتحقق الرؤية كاملة، فتعود إلى أقرب عرس دون أن تضع في فمك شربة ماء. هناك يتولون رفع شأنك من مطبل ظريف إلى مايسترو ماهر متباهيا بقدراتك؛ ممّا يجعلك تهزأ مجددا بكلام جارك القديم  الذي لا يتفق معك في كثير من الأفكار ويردّد دائما مقولته " الماء الذي في رأسي يكاد لا يكفي لمرسى لسفينة نوح"

 

إنّ التركيز أوالمراهنة على عنصر واحد دون غيره من العناصر، لا يكفي لخلق منظومة فكرية مجتمعية نيّرة، إنما من خلال السعي لتحقيقها على قدر عالٍ من الشمولية يقودها إلى المرسى النُوحيّ الآمن، كما أنّ قلة مستوى التركيز لدينا أو ميلنا نحو الضبابية والزئبقية يجعلنا بعض الأحيان نفتقد إلى عقولنا ونخضع لاستبداد عواطفنا.

ربما من أهم الأمور التي يجب أن نتجاوزها للوصول إلى برّ فكري نزيه، هو نبذ مقامات التطبيل وتحكيم أقوالنا وأفكارنا، إلى مذهب عقلاني متزن، مكلّف من قبل ربه بالفرائض، والالتزام بالسنن والقيّم ما استطاع، ومن قبل وطنه وولاة الأمر ورجال الدين بحفظ الوطن والذود عنه وخدمته ما استطاع، وغير مكلّف أبدا بحمل طبل أو هزّ وسط؛ وذلك  كي نجعل الماء الذي في رؤسنا مرسى آمنا لسفن أفكارنا؛ فنحن بحاجة لحفنة مشعّة من بذور النور، نتكاتف في زرع حدائق غنّاء، ترتادها النحل والفراشات بعيدا عن صخب الطبول.

*****

** الإقتباس: همّاز مشّاء بنميم/ سورة القلم