يوسف عوض العازمي
alzmi1969@
"وحدها المرارة كفيلة بهزيمة الإنسان" أمين معلوف.
**********
في عالم الروايات برزت روايات ذات رؤية تأريخية، واستمدت من التأريخ الموغل في القدم قصة وحبكة وتقنية روائية، وقد اشتهرت روايات الأديب والصحفي اللبناني أمين معلوف بتأريخيتها، وتلازماتها التأريخية، وارتباط أحداثها بحوادث تأريخية إبان التأريخ القديم، في العصور الأولى من الزمان الإنساني؛ إذ يحاول طرح قيمة روائية بشكل تأريخي يسلط الضوء خلالها على أحداث، يعتقد أنها حدثت بالفعل. والاختلاف يكون بالرؤية والتحليل لحيثياتها، فإن أردتها تأريخا فلا تخلو منه، وإن حسبتها رواية وعملًا روائيًا فأنت أمام ذلك بالفعل!
وفي رواية "حدائق النور" يستحضر الكاتب عدة أحداث جرت في تأريخ إيران القديم؛ حيث الدولة الأخمينية والدولة الساسانية إلى أن يصل للدولة الرومانية، يعرج خلال الرواية إلى عدة إشارات كالكهنة الزرادشتيين، والسفر إلى مدينة "الرها" التاريخية (أورفه في تركيا حاليًا).
الرواية يجتمع فيها التأريخ مع الفنتازيا (الخيال)، يجمع بها شتات فترات من التأريخ أفلت أطوارها، وجنحت نحوالنسيان أو قل المجهول. يبدولي من قراءة روايات معلوف بأنه أثناء الكتابة يستحضر روح المؤرخ في نفسه، ويكتب سطور الرواية كمؤرخ وليس كروائي، ربما يقصد أنه يحاول سد ثغرات في روايات التأريخ القديم، فإن صحت (كمثال طبعًا) فهو إنجاز يحسب له، وإن لم تصح أو تبقى كرواية؛ فهو في النهاية روائي وليس مؤرخًا؛ أي إن القضية رابحة في الحالتين، ولا يقوم بذلك سوى كاتب ذكي متثقف تأريخيًا.
في روايته الرائعة "حدائق النور" أجدُ عدة مشاهد تأريخية تواترت مع بعضها كشواهد ومشاهد في آنٍ، وهنا أقدمُ شرحًا مبسطًا ومختصرًا لهذه الرواية الآسرة؛ حيث نجد شخصية "ماني" الشخصية الأساسية في الرواية، وتصل لأحداث بستان ذوي الملابس البيضاء الذي يقع شرق دجلة، والزعيم هو شخص يدعى سيتاي. وتبدأ الرواية حين أقنع سيتاي والد ماني بأن يأتي معهم إلى البستان، ووالد ماني يُدعى "پاتبغ" وأمه اسمها مريم، أخذوا ماني بعمر 4 سنوات إلى بستان ذوي الملابس البيضاء، وجاء توأم ماني إليه في عمر الثالثة عشر وهو الذي يوحي إليه ويدعي أنه نبي!
كان في البستان صديق لماني اسمه مالكوس، وهرب من البستان قبل ماني، وترك ماني البستان وهو في عمر الرابعة والعشرين، وعاش فترة في منزل صديقه مالكوس وزوجته كلويه، في مدينة اسمها المدائن، ثم ذهب بالسفينة إلى مدينة دب، وجاء والده معه هاربًا من ذوي الملابس البيضاء إلى دب. ودخل ماني مدينة دب وكان الجيش الساساني يريد غزو المدينة، فذهب ماني لمقابلة قائد الجيش الساساني، وهو: هرمز ابن شاهبور؛ ليقرر مصير هذه القرية. وفي تلك الأثناء مرضت ابنة هرمز، وقال ماني لأبيها القائد إنه يستطيع علاجها، وفعلا عالجها وصار هرمز متعاطفًا مع ماني وديانته، ولم يغز المدينة، وطلب ماني من هرمز أن يأخذ فتاة اسمها ديناغ، وأرسل هرمز- ماني- إلى والده الامبراطور شاهبور، وتكونت علاقة قوية بين شاهبور وماني، وسمح لماني بنشر معتقداته داخل الامبراطورية.
تصل الحبكة إلى زعيم الكهنة الزردشتية واسمه كردير، والذي أخذته الغيرة من النفوذ الذي وصل له ماني؛ فحاول التضيق على أتباعه، وكان ابن الامبراطور الكبير واسمه بهرام، من أتباع كردير. معتقدات ماني كانت ترفض الحرب؛ لذلك عندما قرر الامبراطور أن يقود حملة ضد الرومان لم يعجب ذلك ماني، لكنه لم يكن يعلن اعتراضه على الامبراطور.
تولى السلطة في روما شخصية اسمها فيليب، وقام بإرسال إبنه إلى المدائن لعقد صلح مع الساسانيين بسبب الغزوات التي تتعرض لها الامبراطورية الرومانية، بموجبها تنازل الرومان عن أرمينيا التي كانت مدار الصراعات بين الروم والفرس على مر التأريخ؛ حيث كان الرومان يدفعون الجزية للساسانيين، ثم حصل انقلاب في روما على الملك فيليب وتم قتله، وتولى السلطة بعده الملك فاليريان وتوقف الرومان عن دفع الجزية، وكانت المعركة الكبرى في مدينة الرها، لكن بسبب خائن روماني انتصر الساسانيون وقتل قائدهم فاليريان.
وتتوالى الأحداث؛ إذ بعد وفاة الامبراطور شاهبور عُين ابنه هرمز الأصغر امبراطورًا، وأثناء حفلة التنصيب وُضع له السُم من قبل كردير كبير الكهنة الذي يميل إلى بهرام الأخ الأكبر لهرمز، وبعد موت هرمز الذي كان يميل إلى ديانة ماني وتولي بهرام السلطة، والذي كان ينتمي الى ديانة الكهنة، سُجن ماني لمدة 26 يومًا مع التعذيب حتى مات!
ما سبق، نبذة مختصرة جدًا عن الرواية التي يتنفسُ بها القارئ عبق التأريخ القديم، ويُدخله المؤلف في أتون مسارات زمنية تلهج بذكر دولٍ سادت ثم بادت.. إنها جولة في التأريخ القديم جدًا ما بين حدود الدولة الساسانية والأخمينية وبلاد الرومان في مدينة الرها، وهي وجبة تأريخية لن يستمتع بها سوى محبو التأريخ وهذا النوع من الروايات.