عبد الله العليان
فقدت عُمان منذ عدة أيام، أحد أبنائها المُخلصين للوطن، والتفاني لخدمته والسعي لتقدمه ونهضته، ومن الذين خدموا بلادهم منذ بزوغ نهضتها الحديثة في عام 1970، والتي قادها باقتدار السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- إنه الشيخ العم علي بن سعيد بدر الرواس، الذي سافر في بداية حياته منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي إلى الخارج، كغيره من العمانيين من أجل العمل والتعليم والعيش الكريم، في الوقت الذي كانت محافظة ظفار، وأغلب المدن العمانية تعاني ظروفًا اجتماعية واقتصادية صعبة، واضطروا للسفر للخارج لهذه الأسباب.
عمل- رحمه الله- وتعلم الهندسة الميكانيكية في شركة "أرامكو" في الظهران بالمملكة العربية السعودية، وأتقنها بكفاءة وتفوق فيها مع أقرانه في هذه المهنة الفنية، كما عمل أيضًا في إحدى الشركات بميناء سعود بدولة الكويت لعدة سنوات، وكان يعود للبلاد عدة مرات. وفي منتصف الستينيات من القرن الماضي، واجه التحديات في الغربة والظروف التي لم تكن سهلة وميسورة للعمل، نتيجة الأعداد الكثيرة من العمانيين في الخارج، لكن بالصبر والمثابرة والعزم، تتحقق الأهداف المرجوة، فكان- رحمه الله- صلبًا لا يلين، وقويًا لا ينكسر، وعكوفًا على تحقيق ما يسعى إليه بكل إرادة. فمع توتر الأوضاع في عُمان بشكل عام- وفي ظفار بشكل خاص- بسبب الحياة الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، كان من المهتمين بالإصلاح والتغيير، وخروج بلادنا من التخلف والجهل والمرض، لتعيش بلادنا مثل بقية دول المنطقة من حيث التعليم والتنمية والتقدم.
وبعد تولي جلالة السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم في سلطنة عُمان في 23 يوليو عام 1970، ودعوته الجميع من أبناء الوطن للعودة إلى بناء عمان الحديثة، وفتح صفحة جديدة، وترك الماضي وآثاره، تحت شعار "عفا الله عمَّا سلف"، عاد الشيخ- رحمه الله- في بداية السبعينيات من القرن الماضي، مع آلاف العمانيين بعد هذه الدعوة، وتحقق المطلب الذي سعوا إليه في التغيير، فعمل مع المرحوم الشيخ بريك بن حمود الغافري والي ظفار، وتقلد العديد من المهام والمسؤوليات بمكتب المحافظ آنذاك، من أعمال إدارية وفنية، والمشاركة في لجان كثيرة لتطوير المحافظة- وكانت تسمى المنطقة الجنوبية- ثم تولى مسؤولية مدير عام المديرية العامة للمياه والنقليات. وكانت الحاجة ماسة للمياه في العديد المناطق في المحافظة، وكذلك حفر الآبار الارتوازية في الجبال والنجد؛ سواء لحاجة المواطنين لمياه الشرب، أو لحاجة الحيوانات أيضًا في بعض المناطق النائية والبعيدة بالمحافظة، وكان لجهوده الأثر البالغ في إنجازها، وقام- رحمه الله- بجهود ومتابعة حثيثة بنفسه للإسراع بعمل ما هو محدد ومخطط له، كما تم تعيينه بعد ذلك رئيسًا لبلدية ظفار، وقام بتطوير العمل البلدي ورعايته، ومن أهم الأعمال التي تابعها، موضوع تجميل وتشجير العديد من الشوارع الرئيسية بصلالة وكذلك الإنارة في الشوارع حتى الصغيرة منها، وكان كما يعرفه الكثيرون يقوم بجولة بعد صلاة الفجر على مناطق العمل ويتابع ما أنجز، ويناقش العاملين، وما يتطلب من أشياء قد تكون ناقصة أو تحتاج إلى استكمال.
وحظي- رحمه الله- بالتكريم السامي من السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وعُيِّن عضوًا في المجلس الاستشاري للدولة في الثمانينيات من القرن الماضي عن القطاع الحكومي، ثم تمَّ تعيينه بمجلس الدولة لفترتين بعد تأسيسه، وشارك في لجان المجلس، وتقديم الأفكار التي تسهم في تحقيق أهدافه مع بقية الأعضاء. ومن الصفات التي تميز بها- غفر الله له- أنه كان عطوفًا ورحيمًا مع أرحامه، ولم يمر الأسبوع دون زيارة خالاته في حياتهم. ويذكر أحد أقربائه أنه كان مُسافرًا عندما توفيت إحدى خالاته، وغيَّر الرحلة فورًا، وطلب عدم الدفن حتى يعود بعد ساعات، ليُلقي نظرةً عليها، وهذه من الصفات الطيبة عنده، إلى جانب صفات كثيرة يعرفها من اقترب منه وعايشه لا يتسع المجال لسردها؛ سواء في عُمان أو خارجها.
أتذكر أنه عندما التقيه، وكان آنذاك رئيسًا لبلدية ظفار، كان يقول لي- ويمكن لغيري أيضًا- نريد منكم الملاحظات أو ما تستحق النقد في العمل البلدي؛ سواء كان في مكتبي، أو حتى في البيت، ويخبرني قائلاً: "أنت لست غريبًا عنّا"، وكان يهتم بما يجب أن يكون عليه العمل جيدًا ومستوفيا شروطه الكاملة للنجاح.
وأتذكر أنه بين عامي 1964 و1965، تقريبًا، تعرضت ظفار لمنخفض جوي شديد، وخرج الناس من بيوتهم ونصبوا الخيام في الساحات العامة نظرًا لقوة الأمطار وتسرب المياه فيها، وقد وعيت- آنذاك- لتلك الحادثة، فجاء إلى بيت جد أولاده، بيت الجد الشيخ أحمد سالم مرعي الشنفري بصلالة، وقد كان جدي رحمه مسافرًا، ووالدي أيضًا وأخواني، وكنَّا في نفس هذا البيت مع الأسرة، فعرف أنَّ أحد أماكن البيت حدث له بعض الانشقاق وسقطت بعض الأتربة منه، فقال: "لا يمكن أن تبقوا في هذا البيت، ولا بُد أن تذهبوا معنا إلى البيت حتى ينتهي المنخفض، ويتم إصلاحه". فمكثنا عندهم عدة أسابيع، ولا أنسى الحفاوة والاهتمام منه ومن كل الأسرة، صحيح أننا لسنا بعيدين عنهم من حيث العلاقة الأسرية، لكن الروح الطيبة منه، ومن كل الأسرة، لم تُمح من الذاكرة أبدًا. رحم الله من توفي منهم، ومتّع الله الأحياء منهم بالعمر المديد.
لقد خسرت ظفار؛ بل عُمان كلها، شخصية فذّة امتازت بطيبة القلب، وروح الألفة، وصلة الرحم، والإخلاص للوطن والتفاني لخدمته، والسعي للإصلاح بين الناس وغيرها.. تغمده الله بالرحمة والمغفرة.