هل لعبت النار دورًا مفصليًا في التاريخ البشري؟

 

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي **

 

من الأمور التي يمكن ملاحظتها بسهولة أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقوم بطهي طعامه فجميع الكائنات الحية تأكل طعامًا غير مطبوخ، وقد أثارت هذه الملاحظة العلمية فضول عدد من الباحثين في التاريخ البشري، فمنذ متى والإنسان يطبخ طعامه وهل لهذه العملية أثر كبير على طبيعته البيولوجية؟

إحدى أشهر الفرضيات العلمية في هذا الصدد تشير إلى أن الإنسان الحالي والمعروف بالعاقل، قام باستخدام النار لطبخ الطعام، منذ وجوده على سطح الكرة الأرضية، لكنه ليس الوحيد؛ إذ إنَّ "أشباه البشر" والذين عاشوا قبل الإنسان العاقل استخدموا النار أيضًا في عملية طهي الطعام. والسؤال الذي سنُسلط الضوء عليه، ما هي الأدلة الداعمة لهذه الفرضية؟

تلعب الحفريات دورًا مهمًا في هذه الفرضية، فمن خلال تتبع هذه الحفريات أمكن التوصل إلى هذه النتيجة، فأقدم الحفريات والتي تشير إلى تغيرات بيولوجية ملحوظة، الحفرية المشهورة والمعروفة باسم "لوسي" والتي تُعد من أولى الحفريات التي لها صلة مباشرة بأشباه البشر وتتميز بكونها تمشي منتصبة وهي أولى الحفريات لكائنات تمشي منتصبة ويعتقد أنها عاشت قبل 3.8 و2.95 مليون سنة، وقد لوحظ أنها تملك أسنانًا قوية وفكًا صلبًا أقوى من فك الشمبانزي، مما يشير إلى أنها كانت تمتلك قدرة على مضغ كميات كبيرة من الأطعمة القاسية، كما إن سعة القفص الصدري لديها يشير إلى بطن كبيرة تستوعب أمعاء واسعة لهضم الأعشاب الخام، وينطبق الأمر ذاته على ما يعرف بصنف آخر من أشباه البشر ويعرف بـ"الماهر" والذي عاش قبل حوالي 2.3 مليون سنة.

وهناك حفريات أخرى وهي أيضًا لأشباه البشر، ويعرف بالمنتصب ويبلغ عمر هذه الحفريات 1.8 مليون عامًا، لكن الملاحظ في هذا الصنف من أشباه البشر أنه يمتلك فكًا ضعيفة وأسنانًا صغيرة، كما إن قفصه الصدري صغير، مما يشير إلى أن جهازه الهضمي كان صغيرًا أيضًا ولا يسمح بتناول ومعالجة الطعام الخام. لذا يعتقد أن هذا الصنف من أشباه البشر هو أول من استخدم النار في طبخ الطعام، وأنه كان يأكل طعامًا مطبوخًا ولا يستطيع تناول طعام غير مطبوخ.

وإضافة إلى هذه الأدلة الأحفورية، فإن هناك بعض الأدلة الجينية والتي تدعم هذه الفرضية فهناك جينٌ يُعرف بـ(MHY16)، هذا الجين مسؤول عن تقوية عضلات فك الرئيسيات غير البشرية، نجده مفقودًا في شبه البشر المعروف بالمنتصب، مما يشير إلى انتفاء حاجته إلى فك قوية.

ثم يأتي صنف جديد من أشباه البشر ويعرف بـ"هايدلبيرغ"، ويمتلك جمجمة أكبر بنسبة تصل إلى 30% مقارنة بالمنتصب، مما يشير إلى كبر حجم دماغه. وتشير الأحافير إلى أنه ظهر قبل حوالي 700 ألف سنة، كما تشير الأدلة البيولوجية إلى صغر قفصه الصدري وضعف الفك وصغر الأسنان، وهذه كلها مؤشرات داعمة إلى أنه كان يأكل طعامًا مطبوخًا ولا يستطيع تناول الطعام الخام غير المطبوخ.

وقد حاول البعض تفسير سبب كبر حجم دماغ هايدلبيرغ مقارنة بالمنتصب، وذلك من خلال إرجاع السبب في ذلك إلى عملية الطبخ ذاتها، فنحن نعلم أن أكل النباتات واللحوم غير المطبوخة تحتاج إلى جهد وطاقة كبيرتين؛ نظرًا لصعوبة هضم الطعام غير المطبوخ، ولذلك فقد أدى استخدام المنتصب للطعام المطبوخ إلى توفر كميات كبيرة من الطاقة لديه، كما إن استخدام الطعام المطبوخ وفَّر له وقتًا؛ لأن عملية هضم الطعام أصبحت أسهل وأقصر، كما إن الملاحظ أن عملية طبخ الطعام وتناوله كانت تحدث في كثير من الأحيان ضمن مجموعات تتبادل أطراف الحديث فيما بينهما، كل ذلك أدى إلى تنمية دماغه خلال فترات طويلة وظهور صنف جديد من أشباه البشر يحمل دماغًا أكبر وجمجمة أضخم والذي أسميناه هايدليبرغ، ومما يدعم هذه الفرضية، أن الدماغ يستهلك طاقة كبيرة جدًا تصل إلى حوالي 20% من مجموع طاقة الإنسان؛ بل إن بعض الكائنات الحية تقوم بالتخلص من دماغها بأكله، وذلك لكي تقلل من استخدام الطاقة.

وهكذا تم ملاحظة أن الإنسان الحالي يمتلك دماغًا ضخمًا وكبيرًا، مقارنة بأشباه البشر السابقين، فهل لعبت النار دورًا محوريًا في نمو أدمغتنا؟ وهل حقًا كان استخدامها في طبخ الطعام سببًا أساسيًا لامتلاكنا لعقول ضخمة، جعلتنا نسود العالم ونتحكم به؟!

هذه بعض الأسئلة التي يحاول العلم أن يجيب عليها من خلال فرضيات يطرحها قد تتراكم أدلتها لاحقًا لتتحول إلى نظريات، أو قد تنهار بفعل أدلة تنفي صحتها، لكن الجميل في الأمر أن العلم يفتح لك أفقًا واسعًا من التفكير لتحلق في فضاء رحب ولا يغلق الباب أمامك من خلال طرح إجابات مبهُمة يفرضها عليك فرضًا فيغلق الباب أمام دماغك الذي يعجز عن التوقف عن التفكير فيها، فهو آلة تفكير تموت عندما يتوقف عن التفكير.

 

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس