إسلاميات العقاد وعبقرياته

 

عبد الله العليان

بدأ عباس محمود العقاد حياته كاتبًا وشاعرًا وناقدًا، إلى جانب اهتمامه بالسياسة في بلاده، في وقت كانت مصر تُعاني من الاحتلال الإنجليزي، ووقوع أرضها ساحة للحروب في بعض حدودها، خاصة الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، وكان هذا الاهتمام من عباس العقاد، مُعبِّرًا عن رؤية أدبية وفكرية كانت ضمن حراك كبير في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت الأجواء الأدبية ساحة نقاش وحوار بين المفكرين آنذاك بين الأدب والفكر، وكان العقاد نجم تلك الساحة الفكرية والثقافية؛ بل كان شمسها الوضاءة بغريزة فكره النيّر، وسعة معرفته، وقوة حضور بين أقرانه الأدباء والمفكرين، في منتصف العمر.

اتجه فكر العقاد إلى الكتابة في الإسلاميات- وهذه حصلت للكثيرين من الكتاب والباحثين- تغييرًا في الرؤى الفكرية، ومنها كتابته في العبقريات التي تحدث فيها عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتحدث أيضًا عن عبقريات أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد، والحسين بن علي (أبو الشهداء)، والعديد من رجالات الأمة في عصور مختلفة، ومنها كتابه عن النبي إبراهيم أبي الأنبياء.

ومن المؤلفات الإسلامية المهمة للعقاد "طوالع البعثة المحمدية"، وكتاب "التفكير فريضة إسلامية"، وكتاب "الإنسان في القرآن"، وكتاب "المرأة في القرآن"، والعديد من الكتب والدراسات الأخرى تزيد عن 80 كتابًا. ويعد كتاب "التفكير فريضة إسلامية"، من الكتب المُهمة التي لاقت اهتمامًا من الباحثين العرب ومن الأجانب، وفيها رد على بعض المستشرقين واتهاماتهم، في مسألة التفكير الذي أولاه الإسلام ومنها العقل، وكان الرد على الشبهات التي لا تستند إلى حقائق؛ بل هدفها التشويه لانطلاق التبشير بعد الاحتلال.

يقول العقاد في مقدمة هذا الكتاب: "فريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها، فهو يخاطب العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضًا مقتضبا، بل يذكره مقصودًا على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان. فمن خطابه إلى العقل عامة ـ ومنه ما ينطوي على العقل الوازع ـ قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).. (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون)".

وهناك العديد من الآيات التي تتحدث عن قيمة العقل للنظر الإيجابي في كتابه الكريم. ويضيف عباس العقاد، أن خطاب القرآن الكريم، هدفه توجيه الخطاب: "لأناس من العقلاء لهم نصيب من الفهم والوعي أوفر من نصيب العقل الذي يكف صاحبه عن السوء، ولا يرتقي إلى منزلة الرسوخ في العلم والتمييز بين الطيب والخبيث والتمييز بين الحسن والأحسن في القول".

وفي كتابه "الإنسان في القرآن"، يرى عباس العقاد أن هذا العصر- عصر القرن العشرين- :"كان حقيقًا أن يسمى بعصر "الإيديولوجية" أو عصر الحياة ’على مبدأ وعقيدة‘ لأنه كلما ألقى على الإنسان سؤالًا من أسئلته تلك لم يعفه من جوابه، ولم يسلمه من جزاء أهون من جزاء الحيرة عند السكوت عليه.. فإن يكن سكوتًا عن الأجوبة جميعًا فهو الهلاك المحدق بالأبدان والعقول". لكن العقاد يستطرد في هذا الكتاب "الإنسان في القرآن"، فيقول: "ارتفع القرآن بالدين من عقائد الكهانة والوساطة وألغاز المحاريب إلى عقائد الرشد والهداية .. لا جرم كان "المخلوق المسؤول" صفوة جميع الصفات التي ذكرها القرآن عن الإنسان، إما خاصة بالتكليف أو عامة في معارض الحمد والذم من طباعه وفعاله. ولقد ذكر الإنسان في القرآن- كما يقول العقاد- بغاية الحمد وغاية الذم في الآيات المتعددة وفي الآية الواحدة، فلا يعني ذلك أنه يحمد ويذم في آن واحد، وإنما معناه أنه أهل للكمال والنقص بما فطر عليه من استعداد لكل منهما، فهو أهل للخير والشر، لأنه أهل للتكاليف".

ويضيف العقاد في هذه المسألة المهمة في حياة الإنسان في القرآن الكريم، فيتحدث عن جانب المسؤولية ودروها وشمولها في كل تشريع من تشريعاته، فيقول: "أما مناط المسؤولية في القرآن، فهو جامع لكل ركن من أركانها يتغلغل إليه فقه الباحثين عن حكمة التشريع الديني أو التشريع في الموضوع. فهي بنصوص الكتاب قائمة على أركانها المجملة: تبليغ، وعلم، وعمل.. فلا تحق التبعة على أحد لم تبلغه الدعوة في مسائل الغيب ومسائل الإيمان".

وفي كتابه "الإسلام في القرن العشرين"، يشير عباس العقاد إلى الشمولية في العقيدة، التي لا تنفصل عن بقية الشعائر والقيم والعاملات، وهذا ما يظهر اختلافها عن شعائر الأديان السماوية الأخرى، فيقول: "الشمول الذي امتازت به العقيدة الإسلامية صفة خفية عميقة لا تظهر للناظر من قريب، ولا بُد لإظهارها من بحث عويص في قواعد الدين وأسرار الكتاب وفرائض المعاملات، فليست هي مما يراه الناظر الوثني أو الناظر البدوي لأول وهلة قبل أن يطلع على حقائق الديانة، ويتعمق في الاطلاع. ومن المحقق أن إدراك الشمول من الوجهة العلمية لا يتأتى بغير الدراسة الوافية والمقارنة المتغلغلة في وجوه الاتفاق ووجوه الاختلاف بين الديانات، وبخاصة في شعائرها ومراسمها التي عليها المؤمنون في بيئاتهم الاجتماعية". ويستطرد عباس العقاد في قضية شمولية الدية ووحدة وتكامل تشريعه، بعيدا عن الكهانة والطقوس الخارجة عليه، والبعيدة عن قيمه، فيقول: "ظهر المسلم في تلك الآونة ظهر الشمول في عقيدته من نظرة واحدة، ظهر أنه وحدة كاملة في أمر دينه يصلي حيث يشاء، ولا تتوقف له نجاة على مشيئة أحد الكهان، وهو مع الله في كل مكان، وأينما تولوا فثم وجه الله. ويذهب المسلم إلى الحج فلا يذهب إليه ليستتم من أحد بركة أو نعمة يضفيها عليه، ولكنه يذهب كما يذهب الألوف من إخوانه، ويشتركون جميعًا في شعائره على سنة المساواة، بغير حاجة إلى الكهانة والكهان، وقد يكون السدنة الذين يراهم مجاورين للكعبة خدامًا لها وله يدلونه حين يطلب منهم الدلالة، ويتركهم إن شاء فلا سبيل لأحد منهم عليه".

وفي كتابه "الديمقراطية في الإسلام"، يرى العقاد أن الديمقراطية، وسيلة لغاية ينتفع بها الناس في ممارسة الحياة، والطرح والمناقشة، وتوجيه النقد لأولي الأمر في قضايا الناس واحتياجاتهم، لكن الخلاف حول هذه الوسيلة ونجاعتها لإبعاد الاختلافات الفكرية والسياسية، ولذلك تعددت النظرة عن الديمقراطية، ورؤية الفلاسفة حولها، وفق الإيديولوجيات الفلسفية، ويرى العقاد: "إذا كان العالم عالمًا حقًا فهو خليق أن يحكم في المسألة حكم العلم قبل حكم الدين، فيقول له العلم إن الحقائق الكبرى من هذا القبيل لا يثبتها إنبيق (جهاز لتقطير السوائل) ولا تنفيها معادلة حسابية، ولا تقطع فيها بالرأي مادة واحدة من مواد العلوم، ومتى ظفرت الأمة بإيمانها وانبعثت معه في حياتها وفي جهادها وفي الحاضر من أعمالها والمنظور من آمالها فليست المسألة هنا مسألة هينة يقررها عالم ويدحضها عالم، وتتغير تبعًا لذاك، ولكنها هي باعث الحياة الإنسانية العامة".

الأمر الأغرب أن الكثير من المؤسسات الفكرية الليبرالية وغيرها التي لا تنسجم، مع فكر العقاد في فترته الثانية، تجاهلت إعطاء مكانته العلمية والفكرية، المكانة التي يستحقها، وهذا ما ذكره الشيخ محمد الغزالي في كتابه "علل وأدوية"، وهذه إشكالية من إشكاليات عدم قبول التعدد والتنوع في الفكر الذي قلت يختلف معه البعض إلى حد الإقصاء.