الحوار بين الثقافات

 

د. رضية بنت سليمان الحبسية

يواجه العالم اليوم أزمة حقيقية تتمثل في الحوار بين الثقافات، والتي تُعدّ مؤشرًا على ضعف إدراك المجتمعات لمفهوم الحوار، وفهم مغلوط لحرية التعبير عن الآراء، كما إن تراكم الإرهاصات الفكرية، أو الجهود لانتصارات عقائدية معينة، ساهم إلى حدّ كبير، في نشوء الصراعات بين مختلف الأطياف، وجعل من الحوار المشترك معضلة عصرية، مما حدا بالمفكرين وجهات الاختصاص، العمل على عقد لقاءات دولية؛ لمناقشة قضايا عالمية معاصرة، وتصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة؛ حرصًا منها على تقريب الفهم بين الثقافات، وإيجاد بيئات صالحة للتعايش الإنساني، على اختلاف المرجعيات.

ولا شك أن تسخير الإمكانات؛ للوقوف على بعض القضايا التي تهم المجتمع الدولي، يتطلب توفير عدد من المقومات؛ لاستيعاب التنوع بين المجتمعات. ولعل أهمها: إيجاد منصات للحوارات والنقاشات، تتناول تلك القضايا بفهم عميق، وبآفاق عقلية واسعة. ولنجاح الحوار المشترك، لا بُد من الارتكاز إلى مبادئ أساسية؛ إذ يمثل تقبل الرأي الآخر أحدها، الذي يفترض أن تكون الأطراف جميعها متقبلة للآخر، ومدركة لخلفياتها، التي تستند إليها في التمسك بمعتقداتها، مع الحذر من التعصب للرأي الشخصي، الذي يشتت مساعي اللقاءات الفكرية، في إيجاد قواسم مشتركة؛ للتماسك المجتمعي.

ومما يدل على أهمية الحوار في التعامل مع التنوع البشري، أن الحوار ذكر في القرآن الكريم والسنة النبوية في مواطن عدة، مع مختلف الأجناس، ومع مختلف الأعمار، وبمخاطبة العقل والوجدان، فكانت الاستجابة عن تفكير عميق، فيما يُعرض عليهم، وبالتالي التزام بما جاء في التشريعين. ومع ذلك فإن ما نشهده اليوم من إخفاق لأية محاولات جادة لإقامة جلسات حوارية هادفة، يتصدر الساحة الثقافية، كما يشيع بين العامة؛ لعدم وضوح الرؤية للقضايا المشتركة، مما ينتج عنه تباين في وجهات النظر، وتعدد في زوايا الفهم، التي مهدّت وبسلاسة تامة، إلى إثارة الفتن والشقاق بين المجتمعات.

هذا إضافة إلى اختلاف القيم والمفاهيم لدى الناس، والتي تمثل الأصول للحكم على ما يدور حولهم من قضايا، والتي تؤثر حتمًا على قراءة الفرد لمعطياتها، واستيعابه لحيثياتها، وبالتالي اتخاذه مواقف بعينها، قد تكون صائبة وقد لا تكون. كما إن الانفتاح الثقافي بين الأمم، فتح مجالات واسعة؛ لاستعطاف الناس، عبر وسائل الإعلام المختلفة، وذلك بدغدغة المشاعر والحواس، كما نجحت تلك الوسائل في استقطاب فئة الشباب خاصة، باتجاه معتقدات متعصبة، وقادتهم إلى مزالق خطرة، وقفت عائقاً أمام أية مخططات لإنجاح الحوارات بين الأجيال.

إذن.. فالاختلاف حاصل، والحوار لا مناص منه؛ من أجل إيجاد قاعدة مجتمعية، تنشد السلم والسلام، وتؤمن بالتعددية التي خلق الله الناس عليها. ومما لا شك فيه، أنّ الحوار المنشود، هو ذلك الحوار الذي يخاطب العقل والوجدان سويًا، فتتحقق الفائدة العقلية، والمتعة الوجدانية معًا. وهو ذلك الذي يجعل من المستمع منصتًا، منجذبًا للمُحاور، فيؤثر فيه، ويتأثر بما يحاوره فيه.

ولضمان حوار ناجح، لا بُد من التنبه لمقومات عدة، لعلّ حق الإنسان في التعبير عن آرائه، واحدة منها، بحيث يحرص الفرد منا، على إثبات صحة ما يؤمن، وبالتالي إقناع الآخرين بها. وبالمقابل، فإنّ على الفرد ذاته أن يعترف، بأن رأيه صحيح يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب، فكلها اجتهادات بشرية؛ لمحاولة الانتصار على الآخر، قد تصيب وقد تخطئ.

وبجانب ما سبق، فإنّ على الأطراف المتحاورة، أن تكون على استعداد تام، لخوض تجربة الحوار، واستحضار الأدلة والبراهين، العقلية والسمعية، التي تؤيد أفكارها، وتمكنها من إقناع الآخرين بها، في جو من التفاهم، وبالتركيز على الفكرة، لا صاحبها. واحترام الطرف الآخر، بعيدًا عن التشدد في الطرح، أو التهجم في الاسلوب، أو التشدق بالكلام. وفي حال، تفوقت أحد الأطراف على الأخرى بالحجة والمنطق، والتحليل والتجريب، حينها يجب أن تلتزم الأطراف الأخرى، بالاستجابة لما تم إثباته بالدراسات العلمية، والأرقام الحسابية، والتي لا شك أنها تمثل لغة عالمية.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة