"مو حزن.. لكن حزين"!

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

"اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية، بعضكم سيقول بذيئة، لا بأس، أروني موقفًا أكثر بذاءة مما نحن فيه" الشاعر العراقي الراحل مظفر النواب.

عندما يموت المبدع تجد وكأن الشوارع صامتة، متألمة، حزينة، أصبحت كأرض كساها الحزن ولونتها ذكريات البؤس، وتناقضات اليأس، وترهلات البأس، لأن الفقيد الذي فقدته الأرض كان خارجها لكنه موجودا في عمقها، لا يعرف التزلف، لا يفهم في المجاملات، لم يصافح الرياء، ولم يجلس جلسة رائقة مع حضرة النفاق، لذلك تعرف الأرض تماما من يحبها ومن يخلص لها ومن يصفى لها وإن كثر المصفقون، وجلس المنافقون على موائد اللئام!

عُرف عنه أنه كان يعتاش على البذاءة، ويتجول بين الأرجاء القاتمة، والشعارات الوقحة، فقرر أن يبارزها بما تفهم وتعرف، فقدم لنا أنموذجا من البذاءة والوقاحة والشتم وكل شيء فيه ذم ومذمة، كان صافيا نظيفا ثوريا صادقا لم تتسخ يداه بما اتسخت به أيدي المنافقين وأهل الشعارات، لذلك قرر محاربتهم بشعاراتهم، وبوقاحتهم وبذاءتهم، وكل سلاح أمتطوه كان يمتطيه، شجاعا لايطمع إلا بابتسامة صافية على مائدة فقير تحتوي على قيمر من الحلة، وخبز بصرواي واستكانة من الشاي البغدادي.

لا أعلم هل كنت امتدحه وأشيد به أو كنت أستهزء به وأشتمه (أتركها لك قارئي الكريم) كان بإمكانه أن يكون من ذوي الحظوة والنفوذ، ويأتي على دبابتهم كما أتى غيره ممن يدعون الإخلاص الصادق، وكانوا مخلصين صادقين لمبادئهم، فأصبحت بلاد الرافدين الآن وفقا لمتسعات الصدق والإخلاص التي أتت به دباباتهم، وشمرت به على الأراضي المخضبة من الدماء والتي لم تعد مستغربة من أية دماء جديدة، فالدم أصبح جليسا لكثير من جلسات بلاد الرافدين ذات التاريخ العريق، والإرث العميق، والتي أصبحت بعد دباباتهم بلادا تحكم من بلاد، وأرضا امتزجت بها الوقاحة بنترات البذاءة، فكان مظفر النواب تائها بين هذه وتلك.

مظفر النواب لم يكن عاديا في بلاد أنجبت بدر شاكر السياب والجواهري ونازك الملائكة وغيرهم من المبدعين، كان صريحا لم يصافح المجاملة، كان يسمي الأمور بأسمائها، لا يخشى شيئا، كان معلما ثم مفتشا بالتربية والتعليم ثم شيوعيا ملاحقا مغضوبا عليه، وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم بالسجن المؤبد، وهرب من السجن عبر حفر نفق، عايش كل أنواع البؤس وانصهر فيها، تموضع بين ثكنات الاستبداد ولم يهادنها، وتموجت كلماته بين أنهار العبودية ولم يسبح بها، كان عزيزا رغم كل شيء، رغم البذاءة والوقاحة، كان يحمل من العزة ما لا يحمله أنظف من وطأ بلاط السياسة.

كان يملك من المفردات والألفاظ مخزونا يجعله يقارع أعتى الشعراء، وكاد بحكم إمكانياته الشعرية أن يكون متنبئاً جديدا للأمة، لكنه آثر المبادئ وداس بقدميه شعارات الشعراء والغنائين في حضرة أهل الحكم، فكان يوجه شعره للبسطاء والفقراء والعرب الأقحاح الثائرين على مايحدث في مستنقعات الثورجية الكاذبين.

وصل إلى الشارقة متأخرا في خريف العمر، فأكرمت وفادته، وأعطته مايستحق من تقدير، ومات في أحد مستشفياتها وحيدا، حزيناً بعد ثمانية وثمانين عاما من الجدل والشعر والحزن والإبداع، قرأت له بإحدى إبداعاته :

وماذا بعد؟

سرت في اتجاهك العمر كله

وحين وصلتك

انتهى العمر!

وفي إحدى أشهر قصائده.. وهي تفسر نفسها بنفسها يقول:

مو حزن . . لكن حزين ..!

مثل ما تنقطع

جوا المطر

شتلة ياسمين !

مو حزن .. لكن حزين

مثل صندوق العرس

ينباع خردة عشق

من تمضي السنين !

أنا قتلك

مو حزن لكن .. حزين !!

مثل بلبل قعد متأخر

لقى البستان كلها بلاية تين

مو حزن لامو حزن لامو حزن لكن

أحبك من كنت يا أسمر جنين

رحم الله مظفر النواب وغفر له وتجاوز عنه وأسكنه فسيح جنانه.