"الإسخاتولوجيا".. الفلسفة والفكر!

 

أنيسة الهوتية

"الإسخاتولوجيا" أو "علم الأخرويات" أو "نهايةُ العالم"- عندهم- وعندنا يومُ القيامة، مفهُوم ثابت غيرُ مُتغيرٍ ذُكر في جميعُ الديانات الإبراهيمية والأخرى.. والأساطير الميثولوجية الإغريقية واليونانية والشمالية.. وكذلك المفاهيم الفلسفية لـ"اللادينيين"، والمُلحدين.

وكُل تلك المُسميات للشيء ذاته مع اختلاف وجهات النظر في الحيثيات الفكرية لأتباعها عن كيفية ابتداء البدايات لتلك النهايات، تُثبتُ أن الإنسان مهما اختلف عن غيره في فكره وديانته وثقافته، إلّا أنهُ يبقى آدميًا لا يتجرد من الفُضول بشتى أنواعه، وخاصةً الفُضولُ الفكري وبالأخص المُتعلق بنهاية الكون أو العالم.

وصدق المُتنبي حين قال:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله  // وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ

ويبقى معنى بيت القصيد في بطن الشاعر، أما أنا فأقرأُ في ذلك البيت عن صاحب العقل المضجوج بالأفكار، والمُنشغل بالتتبعات والإثباتات والقراءات والأعاصير الفكرية التي تمرُ بخلاياه الدماغية الحسية، فتأخذهُ من واقعه إلى عالم أفكاره في أبعادٍ أخرى غير حسية، ولا وجودية؛ كعقل أي مُثقفٍ حقيقي وليس "مُتثيْقِف"، وعقلُ فيلسوفٍ حقيقي وليس "مُتفلسِف"، وفعلًا هؤلاء لا يشعرونُ بلذة الحياة كمثل غيرهم ممن يستمتعون بأبسط ماعندهُم في الحياة، فلا أفكار تشغلهُم، ولا ذهنًا شاردًا عن حاضرهم الذي يتواجدونُ فيه أينما كانوا، مع أي من كانوا! ليسوا كالبُسطاء الفكريين الذين هُم أكثرُ حظًا منهُم في الحياة؛ لأنُهم فعلًا يعيشونها بقانون السعادة الأساسي وهو حضور الذهن والعقل والقلب في وقت الحدث للاستمتاع بحواسه، وليس فقط حضور الجسد المُفرغ كجذع نخلةٍ خاوية.

الإنسانُ البسيطُ لا يهتمُ بتفاصيل نهاية العالم، وعلم الأخرويات، والإسخاتولوجيا، ومتى تقومُ القيامة! لأنهُ مُقتنع بأن قيامتهُ هو ستقومُ مع موته، وما كان الموتُ إلا قيامةً صُغرى ونحنُ مُلاقوهُ لا محالة، وسكراته أفجعُ على الإنسان من أهوال يوم القيامة، إلّا إنْ كان مؤمنًا أحبهُ اللهُ لأفعاله ورضي عنهُ فأرضاهُ بلذة الموت ولقاء الملائكة أحبابُ الله تعالى الذين لا ينزعون روحهُ من جسده؛ بل ينزعون عن روحه هُموم الدُنيا الفانية ومكدتها، فالموتُ مؤلم على من فارق المُتوفى أكثر من المُتوفى نفسه إلا من ظلم.

هذه هي الحكمة من فلسفة البساطة؛ فالبُسطاءُ أيضًا لديهم فلسفة خاصة بهم، فلا تظنوا أن الإنسان البسيط فارغ من العقل! لا.. بل هُو قادر على أن يُسيطر على عقله ويستهلكه فيما يشاء، ويتركه فيما لا يشاء.. أما الآخرون فإن عقولهم تسيطر عليهم، فلا يستطيعون الخروج من شباك أفكارها المُتتابعة حتى تصل بهم إلى الجُنون، فإن بين الفلسفة والجنون شعرة.

وكُلُ ما يزيد عن حده ينقلب ضده، واستخدام العقول يجب أن يكون بالمعقول. والضجيج الذهني المُتوارد تترًا لن يجعل الإنسان مُفكرًا، أو فيلسوفًا؛ بل مُتخبطًا بين العقل والجنون حتى يقع في براثن الثانية، ثُم لن تدعهُ يخرجُ للنور أبدًا.. أما الإنسان المُفكر فإنه يلجم أفكاره ويروضها كترويض الفارس للخيول البرية الأصيلة، فيستحضرها متى ما شاء، أينما شاء، مثلما شاء، فارسًا مغوارًا إن انتصر في معاركه فإنه ينتصر للقضية والفكرة وليس لنفسه، وأيضًا متى ما شاء يُريحها ويجعلها تسترخي وتنام؛ فيذهب ماشيًا على قدميه في حقوله مُستمتعًا بصمتٍ وهدوء بالسنابل الذهبية وشعاع الشمس وزُرقة السماء الصافية، وهبوب الهواء اللطيف وحتى صوت نقيق الضفادع وصرير الصراصير.

والفيلسوفُ ليس من لف ودار حول رأيه لإقناع الآخرين به كما يدور الكلب نابحًا وراء ذيله! فالسلفة ليست تذاكيًا بالكلام؛ بل ثلاثةُ أرباع إتقانها في الإنصات، ونصف الربع الأخير في الاستيعاب والتمعن والبحث، وما تبقى فقط في التحدُث بعقلٍ ومنطق يربطُ الشيء وضدهُ في قالبٍ واحد، كفلسفة الثمانية والسبعة حسب اختلاف زوايا النظر.