48 كيلومترًا عن مدينة القدس

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

- ماذا فعلتَ اليوم، أين وصلت؟

- لا شيء، ما زلتُ بعيدا، أركضُ حول نفسي، وأنت؟

-  اقتربتُ، أبعدُ عن القدس حوالي 48 كم!

- أخبرني، ماذا ترى؟

مررتُ الآن على لوحة طريق مكتوب عليها "مدينة القدس" تبعد من هنا مسافة 48 كيلومترًا، لم يبقَ إلاّ القليل، لكنك ما زلتَ بعيدا لن تلحق بي، سأصلي في القدس قبلك، كنتُ على يقين من أمري وكنتَ عكسي تماما. وها أنا اقتربُ أكثر فأكثر، أشتمُّ رائحة التراب، وصلتُ أسوار المدينة، ياله من مشهد! يختلف تماما عمّا نراه على شاشات التلفزة، لفتني لون الأرض، إنه أحمر قاني، كلما اقتربت من بقعة وجدتها أشدُّ احمرارا من الأخرى!

يبدو أنّ العاشقين للأرض يحقنونها بالحقن الحمراء فتزداد خصوبتها وتحملُ بأجنّة البراكين الثائرة بالدم والحجارة والقوة. مررتُ على كمية هائلة من الذخائر المتحركة في الشارع، لاحظتُ أنها مختلفة عن أيّ عدّة حرب مالوفة، فهي تصلي وتذهب للكنيسة وتلعب الكرة وتغني وتمارس الكتابة وتجلس في المقاهي!

لم تصنعها المصانع ولم تخسرالحكومة الفلسطينية، مبالغا مالية طائلة في تدريبها وتأهيلها عسكريا، ولم يتم استيرادها من الخارج، إنما خرجت من مصانع الأسر الفلسطينية، مذهلة عندما تصوّب نفسها نحو الهدف.  

النساء هُنا مصانع الذخيرة وقوة استمرارها ومصدر تطورها، فالمدافع هنا لم يتدرّب على السلاح، ولم يتم التحاقه بالمدارس الحربية؛ بل اعتاد على أنه هو السلاح، فاعتمد على مادة دمه يُحركها نبضه، آمن كأخيه المقاتل بقاعدة " النصر أو الشهادة".

المولود في فلسطين لا يبكي لحظة مجيئه للدنيا كبقية الأطفال؛ بل يصدر بطريقته صفارات الإنذار التي يفهمها أبويه جيدًا، أشعر أنّ الفلسطينين لا يتباهون بأبنائهم كحال بقية العرب؛ إنما يعتبرون أنفسهم نجحوا في صنع ذخيرة أخرى على جودة عالية من سابقتها.

أرى أشجار الزيتون والعوسج تنتشر حول المدينة وعلى جبالها وسفوحها الخضراء، يُخيل لي أنّ كلّ ما حولي من شجر وحجر وطريق وماء، يدافع أو متأهب للدفاع، ليست الكائنات الحية فحسب؛ بل المكان مفخخ بما عليه، أشعر أنّ النسائم قنابل موقوتة تنتظر الالتحام، المكان هُنا ليس كأيّ مكان، إنه يختصر الوجود، هولا يفقد ولا يخسر مهما تساقطت على أرضه الأرواح، اعتدنا على مقولة "لا خسارة إلاّ خسارة الرّوح"؛ لكن يبدو لي أنّ من يقطن هذا المكان آمن بأنه "لا خسارة سوى خسارة الوطن".

نعلم أنه عندما تقدم دولة ما على حرب دولة أخرى تكون متكئة على قوتها، وقد لا تقل الدولة المستهدفة عنها، فقد تكون على قدر يكا فؤها في القوة أو يقل قليلا؛ بينما في فلسطين الأمر مختلفا، لا ذخيرة سوى الدم ولا قوة سوى قوة الإيمان.

يصنع العزل في فلسطين ملاحم النصر دون سلاح. لله درُّ شعب على مرّ العصور يخرج لساحات المعركة لا يعرف ملابس الحرب، يتقلّد دمه ويقينه، ماضيا في حقه غير مباليا بيده الخالية من السلاح، ولا بحجم الخذلان من حوله. 

في فلسطين تعاهد الحزن والفرح على طرق أبواب البيوت معا، فلون الأرض الحمراء أخفى كلّ الألوان، هُنا بالأمس كانت شيرين واليوم تكتسي الأرض دمها، وينثر الهواء عبق روحها ياسمينا في كلّ الأنحاء، كان بإمكانها أن تمارس عملها في أيّ بقعة آمنة في العالم، لكنها فضّلت أن تبقى بالقرب من اليقين، تُخرجُ الحقيقة المؤلمة تفضح الخائبين، مهما كلّفها ذلك من العناء والجوع والمخاطر.

هُنا الدرس الذي سطّرته ملحمتها البطولية الأخيرة في مخيم جنين، لفظته آخر أنفاسها ليبقى معادلة موزونة على مداخل وقلب كلّ أراضي ٤٨، من صفد شمالا مرورا بكلّ من عكّا وحيفا وطبريا والناصرة وببسان ويافا وأللد والرملة ومجدل وعسقلان وبئر السبع وصولا إلى النقب.

لم تؤمن بالوهم القائل "القضية الفلسطينة"؛ بل كان إيمانها أنّ فلسطين أرض عربية يقبع على ترابها محتل جبان، فآمنت باستعادة الأرض بدلا من جعلها قضية محتمل كسبها أو خسارتها؛ لم تتقبل خسارة الأرض؛ فخسرت روحها؛ فاحتضنت الأرض ما تبقى ضعف جسدها.  

إنني هُنا لا أرى شيرين وحدها؛ بل أن كلّ الكائنات شيرين، الأرض ولاّدة مثلما ولدت شيرين، تلد مليون شيرين. هُنا أرى وأسمع من يقول: "لي ديني ولك دينك؛ لكنّ هدفنا واحد لن نتخلّى عنه".

- حديثك شيّق؛ لكنّه يؤلمني.

- صه، إنني أخلع نعلي للصلاة في الأقصى.