نهضة متجددة بقيم ثابتة

 

نجاح بنت محمد الراشدية

حبا الله عُماننا بما لا يحصى من النعم والخيرات، ومنها ما أصبحت سائدة ولا نكاد نشعر بها إلا عندما نقارن أنفسنا بغيرنا من الدول، فمنذ عهد سلطاننا الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وقد تربينا وكبرنا على التقارب الأبوي بينه وبين شعبه ولم يخلو أي حديث له في جولاته السامية أو في الفعاليات الوطنية والرسمية- التي كانت تنقل لنا- من التأكيد على قيمنا العمانية العريقة وضرورة التمسك بها وبمبادئ ديننا الإسلامي الحنيف، وكان ينصح أحياناً ويُشدد أحياناً مما جعله قائداً ملهماً وأباً حريصاً وولي أمر حكيماً.

ولعل سر التناغم الذي شهدناه بين إصرار جلالته -رحمة الله عليه-  على التمسك بالقيم الإسلامية والمبادئ السامية مع مختلف توجهات عمل الدولة والأساسيات التي أتبعها في بناء دولة حضارية عالمية كان ملفتاً على الصعيد المحلي والعالمي حتى أطلق على هذا النهج المدرسة القابوسية في البناء الأخلاقي والقيمي والذي تجسد في هوية الدولة العمانية وسطرته كتب ومجلدات كثيرة لا تزال تروى بكل فخر واعتزاز. وحتى بعد رحيله أكمل رسالته بـ"ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.." سورة الأنفال.

واليوم نحمد الله على أن قيَّض لنا سلطانًا عظيمًا آخر إنه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أيده الله- الذي أكد على نفس النهج الأصيل الذي يجمع الشعب العماني ويحثهم على التمسك بالأخلاق والقيم في جميع المجالات. كما  أكد على محاربة الفساد وعدم السماح بالتَّهاون في أداء العمل تارةً بمصطلحات مثل الأمانة والنزاهة والإخلاص والمساءلة والمحاسبة، وتارةً أخرى بالتأكيد بحزم على أهمية تربية الأبناء التربية الصالحة على مبادئ الأخلاق والقيم العُمانية الأصيلة. وحين يُعرّج جلالته في خطابه إلى هذه الأمور بالرغم من انشغاله بمستجدات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في ضوء الأحداث والتطورات العالمية لهو خير دليل على ما يشغل فكره السامي، والأهمية التي تحتم عليه أن يذكّر شعبه باستمرار بأنَّه لا يمكن أن نتجاهل قيمنا ومبادئنا مهما تقدمنا، واللبيب يدرك الحكمة من التذكير بهذه القيم الإنسانية والأخلاقية في تلكم المجالس والاجتماعات؛ إذ إن لها الأثر الكبير في تماسك الأمة وتعاضدها وعدم سير سواعدها للركاكة والاندثار والعياذ بالله.

ومن أقوال جلالته في هذا الجانب: "ونُهِيبُ بأبنائنا وبناتنا التمسُّك بالمبادئ والقِيَم، التي كانت وستظل ركائز تاريخنا المجيد، فَلْنَعْتزّ بهُويتنا وجوهر شخصيتنا، ولنَنْفَتِحْ على العالمِ، في توازن ووضوحٍ، ونتفاعل معه بإيجابية، لا تُفْقِدُنا أصالتنا ولا تُنسينا هويتنا" (11 يناير 2022). وقال أيضاً "إن بناء الأمم وتطورها مسؤولية عامة يلتزم بها الجميع، ولا يستثنى أحد من القيام بدوره فيها، كل في مجاله وبقدر استطاعته".

هكذا كان توجيه جلالته في خطابه مؤكداً أن التطوير يتحقق ببناء شخصية المواطن، ووجّه حفظه الله إلى إيجاد برامج تُعزز الهوية العمانية الأصيلة وقيم المواطنة، والعمل على توظيفها في بيئة التعليم والعمل والأسرة والمجتمع، لتنفيذها على أرض الواقع.

وكم هو جميل أن نرى تلك القيم بارزة في أماكن العمل، فعندما يأتي المسؤول- أيًّا كان موقعه- في اجتماعاته الدورية بالموظفين ويستهل اللقاء بالآيات القرآنية والحث على العلم والتمسك بالأخلاق الحميدة كالتعاون وطيب التعامل والصبر وتقديم مصلحة الوطن والتحرر من المصالح الشخصية والتمسك بالقيم والمبادئ التي تربينا عليها، تشعر بعدها أن نفوس الموظفين هادئة مُطمئنة وأكثر قابلية للنقاش والحوار البناء، مما يجعل الحاضر يستصغر التحديات التي أثقلت كاهله وينتقل بفكره إلى تحقيق الطموح والأهداف، وبالرغم من أن تلك المقدمة لم تأخذ سوى دقائق معدودة ولكن قد يكون لها الأثر الكبير لمجريات النقاش بعدها.  الشاهد في الأمر بأن الكثير منا تأخذه الأعمال والضغوطات وتؤدي به أحياناً إلى عدم القدرة على التحكم في إدارة مهامه، وكأنَّ الحياة تسرق منَّا الوقت لذا نسعى إلى التركيز في تنفيذ تلك الأعمال والتوجيه بالإسراع في إنجازها والانتهاء منها غير مدركين بأن هناك أمور لو توقفنا معها لثوانٍ واستذكرنا فوائدها لهوّنت علينا الكثير ولأصبحنا أكثر صبراً وتسامحاً وتعاوناً ومحبة، وأكثر إنتاجية.

إنَّ العصر الذي نعيشه الآن والظروف التي تتسم بالتعقيد أحياناً والتقلبات المالية والاجتماعية كلها تُؤثر سلباً على نفسياتنا وعلاقاتنا بمن حولنا والعمل هو جزء لا يتجزأ من هذه الدائرة التي تؤثر فينا ونؤثر فيها، لذا أصبح القائد والمسؤول الناجح ليس فقط من يتفوق علميا ومهنيا على أقرانه، بل أيضاً من يستطيع أن يوجه علاقاتهم وأهواءهم ومن يستطيع أن يذكّرهم بالقيم الإسلامية ومبادئ ديننا الحنيف وتعاليم المدرسة القابوسية، وهو القائد الذي يصنع التناغم بين تحقيق الأهداف العملية وتطبيق المبادئ المهنية، هو من يستمع باهتمام ويهتم بما يسمع، هو من  يستطيع غرس الإيجابية في أصعب الظروف ويرفع المعنويات ويحوّل التحديات إلى فرص بسعة التفكير والتفاؤل في التعاطي مع الأمور وتحمل مختلف الطباع والتوجهات.  ولن يُفلح في ذلك إلا من يتحلى بسُّمو الأخلاق وكريم الخصال، ونحن نرى ونسمع جلياً أن أول ما يذكر عند مدح القائد الناجح هو حسن أخلاقه وأول ما يذكر عن أي شخص أريد ذمه هو سوء خلقه.

لقد أدركت كبريات الشركات والمؤسسات العالمية أهمية القيم في العمل وأصبحت تتباهى بها وبأخلاقيات العمل لديها بل وتبرزها في مواقعها الإلكترونية ومبانيها وتقيّم موظفيها عليها، وهي بذلك تعزز ثقة عملائها وتنافس أقرانها وترفع من رصيد رأسمالها اللامادي الذي يدخل في تقاريرها المالية، فالقيم التي تعهدت هذه المؤسسة في التمسك بها تسير جنباً إلى جنب مع ما تحققه من أرباح وهكذا تتساوى معها في الأهمية، فإن سقطت إحدى هذه القيم سقطت معها سعر أسهمها السوقية وتراجعت تلك الأرباح. وأصبحت هذه العوامل والمؤثرات مع مرور الزمن تنتشر في جميع الأوساط والقطاعات بشكل متسارع، ولم تعد دروسا قصيرة تدرّس في حصص التربية الإسلامية بل منهاج حياة وسلوكيات تتداول في أنجح الشركات ويتم تدريب قادة المستقبل على صقلها وتطبيقها.

وحيث إن رؤية "عُمان 2040" تهدف إلى تأسيس مجتمع معرفي ممكّن، إنسانه مبدع، معتز بهويته وثقافته، ملتزم بمواطنته وقيمه، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام، عماده رعاية صحية رائدة وحياة نشطة، وتعليم شامل  وغيرها من الأهداف التي تلقي المسؤولية على كافة القطاعات والمؤسسات؛ حيث أصبح لزامًا على كل الجهات المسؤولة التسلح بما يساعدها للوصول إلى تجسيد تلك الأهداف وتحقيق النتائج المرجوة، وقريبًا سوف نرى المؤسسات الحكومية تعلن عن قيمها هي أيضا لتتنافس فيا بينها وتكون أحد المعايير الأساسية إن لم تكن أهمها في اختيار المؤسسة الرائدة والفائزة للعام مثلاً، وبذلك تتحقق رؤى قائدنا المفدى وننتقل بعماننا إلى نهضة متجددة بقيم ثابتة راسخة، وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي: (وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ // فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا).

تعليق عبر الفيس بوك