وقفة مع الابتلاء

 

محمد بن سعيد الرزيقي

الابتلاء هو من أعظم سنن الحياة الدنيا؛ بل هو أساس في وجودنا على هذه البسيطة، يقول الله تعالى: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" (المُلك: 2)، وللبلاء مرادفات عديدة، فمن أهمها:البلية، والمحنة، والمصيبة، والخَطْب، والشدة، والنكبة، والاختبار، والامتحان، وبناء عليه فإنَّ الابتلاء كلمة تحوي في مدلولها ومضمونها جميع المرادفات المذكورة.

يُبتلى الإنسان بأنواع كثيرة، ومختلفة من البلايا، والمحن، والمصائب إبان وجوده في هذه الدنيا، فتارة يصاب في نفسه من مرض وفقر، وتارة يصاب في ماله، فيفقده، وتارة أخرى يصاب في زوجه وولده فيفقدهما أو يمرضا أو غير ذلك، وتحيط به البلايا من كل صوب وحدب، لكن هذه الابتلاءات بالنسبة للمؤمن كلها له خير، لذلك تعجب النبي- صلى الله عليه وسلم- وردة فعله الإيجابية تجاه هذه الابتلاءات؛ يقول النبي- صلى الله عليه وسلم - (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، رواه مسلم

أخي المسلم لا يهولنك ما تلقاه من مصائب، وما رزئت به من نكبات، ومحن، ومتاعب في نفسك، أو زوجك، أو ولدك أو مالك، كل ذلك اختبار وابتلاء لك؛ فقد يكون الابتلاء رفعة لدرجاتك في الجنة، وقد يكون كفارة لذنوب معاصي ارتكبتها؛ فيخرجك من البلاء نقيا من الذنوب؛ إن أنت صبرت واحتسبت الأجر عند الله تعالى، يقول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكةُ يُشاكُها إلا كفر الله بها من خطاياه) متفق عليه، أو قد يكون أراد تنبيهك على ما قصرت وفرطت به في جنب الله، ويريد منك أن ترجع إليه بالتوبة والإنابة، يقول الله تعالى: "وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (السجدة: 21)، ذكر القرطبي قولا في تفسير العذاب الأدنى قال هي (المصائب في الدنيا) أو أراد أن يسمع منك صوتك بالدعاء والضراعة، فلطالما بعدت المسافة بينك وبين الله، وتعمقت الهوة؛ بسبب لوثة المعاصي والانغماس في وحل الشهوات وحب الدنيا.

أخي الحبيب.. إن زمام الأمر في مواجهة المحن والمصائب هو التقوى والصبر والدعاء؛ فمن رُزق هذه الثلاث فقد رُزق خيرا كثيرا، لا يعلم مداه إلا الله تعالى، وعاقبة المستمسك بها محمودة في الدنيا والآخرة، فإن التقوى تجعله يراقب الله تعالى؛ فلا يتلفظ بقول يُسخطُ الله تعالى، ولا يعمل عملا يبعده عن الله تعالى كأن يذهب إلى الدجالين والمشعوذين، وثمرة التقوى ينال صاحبها المُبتلى رضا الله تعالى، ويجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب فقد الله تعالى في محكم التنزيل: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ" (الطلاق:3). والصبر يجعله إنسانا رزينا متزنا؛ فلا يدخله جزع ولا خوف، وثمرة الصبر أن الله تعالى أعدّ للصابرين من الثواب والأجر ما لا يعلمه إلا الله، يقول الله تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر: 10)، انظر أخي الكريم إلى هذا الكرم الإلهي، والفيض الرباني، والأجر الممدود بغير حساب، قال العلماء في تفسير "بغير حساب" كما في تفسير الطبري "ما هُناكُم مكيال ولا ميزان".

والدعاء يدفع به البلاء، ويستجلب به رحمات الله، وفيوض كرمه، وواسع مغفرته؛ فقد شرع لنا الإسلام الدعاء، ورغب فيه؛ فقال سبحانه وتعالى:"وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" (غافر: 60)، وقال"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (البقرة: 186)، وقال:"وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا" (الأعراف: 180)، وجعله عبادة من العبادات التي يتقرب بها العبد المؤمن إلى ربه، كما جاء في حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (الدعاء هو العبادة)، رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود.وبينت السنة المطهرة الموقف الإلهي في سرعة استجابة الله تعالى للدعاء بأنه يدور بين ثلاثة أحوال: الحالة الأولى، إما أن يعجلها الله سبحانه وتعالى، والحالة الثانية، وإما أن يدفع بها من السوء مثلها، والحالة الثالثة، وإما أن يدخرها له في الآخرة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا) قَالُوا: إِذًن نُكْثِرُ، قَالَ: «اللَّهُ أَكْثَرُ».

وفي جميع الحالات يقضي الله سبحانه وتعالى للعبد ما هو أنسب لعاجله وآجله ، وعلى المرء أن ييقن يقينا صادقا لا شك فيه بأن قضاء الله عدل وحق.

أخي المبُتلى أبشر، إن فرج الله آتي لا محالة، ورحمته نازلة، ونعمته سابغة، وعليك بالإستمساك بحبل الله المتين، ما من أحد استمسك به إلا ووجد حلاوة الإيمان تسري بين أضلعه كالماء البارد على الظمأ، وانسكبت الطمأنينة كالماء الزلال في كل خلية من خلاياه، ودبت العافية في جسده، ونشطت همته ثقة بوعد الله، ووجد الله عنده فآنسه من وحشته، وهون عليه مصائب الدنيا.

وختامًا.. إن الصبر على البلاء عاقبته محمودة، وقد ظفر من صبر، فكم من ناس صبروا على الأمراض، ولم يتضجروا، ولم يذهبوا إلى العرافين، ولم يسخطوا الله لا بقول ولا بفعل، ثم شفاهم الله برحمته وفضله، وكم من ناس صبروا على الفقر، ولم يذهبوا إلى الاستدانة من البنوك الربوية، ولم يذهب بهم استعجال الرزق إلى ارتكاب ما حرم الله من سرقة أموال الناس، أو الغش في التجارة، أو اغتصاب أموال الناس، ثم أغناهم الله من فضله، وكم من ناس صبروا في سبيل تبليغ دين الله، وتعليم الناس شريعته، وقد ظفروا بخيري الدنيا والآخرة.

تعليق عبر الفيس بوك